الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                194 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واتفقا في سياق الحديث إلا ما يزيد أحدهما من الحرف بعد الحرف قالا حدثنا محمد بن بشر حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيأتون إبراهيم فيقولون أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم موسى صلى الله عليه وسلم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمت الناس في المهد وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم عيسى صلى الله عليه وسلم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنبا نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى وحدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم فتناول الذراع وكانت أحب الشاة إليه فنهس نهسة فقال أنا سيد الناس يوم القيامة ثم نهس أخرى فقال أنا سيد الناس يوم القيامة فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال ألا تقولون كيفه قالوا كيفه يا رسول الله قال يقوم الناس لرب العالمين وساق الحديث بمعنى حديث أبي حيان عن أبي زرعة وزاد في قصة إبراهيم فقال وذكر قوله في الكوكب هذا ربي وقوله لآلهتهم بل فعله كبيرهم هذا وقوله إني سقيم قال والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر أو هجر ومكة قال لا أدري أي ذلك قال [ ص: 429 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 429 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا سيد الناس يوم القيامة ) إنما قال هذا - صلى الله عليه وسلم - تحدثا بنعمة الله تعالى ، وقد أمر الله تعالى بهذا ونصيحة لنا بتعريفنا حقه - صلى الله عليه وسلم - . قال القاضي عياض : قيل السيد الذي يفوق قومه ويفزع إليه في الشدائد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سيدهم في الدنيا والآخرة ، وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها ، وتسليم جميعهم له ، ولكون آدم وجميع أولاده تحت لوائه - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار أي : انقطعت دعاوى الملك في ذلك اليوم . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر ) أما ( الصعيد ) فهو الأرض الواسعة المستوية ، وأما ( ينفذهم البصر ) فهو بفتح الياء وبالذال المعجمة ، وذكر الهروي وصاحب المطالع وغيرهما أنه روي بضم الياء وبفتحها قال صاحب المطالع : رواه الأكثرون بالفتح وبعضهم بالضم . قال الهروي : قال الكسائي : يقال : نفذني بصره إذا بلغني وجاوزني . قال : ويقال : أنفذت القوم إذا خرقتهم ومشيت في وسطهم فإن جزتهم حتى تخلفتهم قلت : نفذتهم بغير ألف ، وأما معناه فقال الهروي : قال أبو عبيد معناه : ينفذهم بصر الرحمن تبارك وتعالى حتى يأتي عليهم كلهم ، وقال غير أبي عبيد : أراد تخرقهم أبصار الناظرين لاستواء الصعيد والله تعالى قد أحاط بالناس أولا وآخرا . هذا كلام الهروي ، وقال صاحب المطالع : معناه أنه يحيط بهم الناظر لا يخفى عليه منهم شيء ; لاستواء الأرض ليس فيها ما يستتر به أحد عن الناظرين ، قال : وهذا أولى من قول أبي عبيد : يأتي عليهم بصر الرحمن سبحانه وتعالى ; لأن رؤية الله تعالى تحيط بجميعهم في كل حال في الصعيد المستوي وغيره . هذا قول صاحب المطالع . قال الإمام أبو السعادات الجزري - بعد أن ذكر الخلاف بين أبي عبيد وغيره في أن المراد بصر الرحمن سبحانه وتعالى أو بصر الناظر من الخلق - : قال أبو حاتم : أصحاب الحديث يروونه بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم ويستوعبهم من نفذ الشيء وأنفذته ، قال : وحمل الحديث على بصر الناظر أولى [ ص: 430 ] من حمله على بصر الرحمن . هذا كلام أبي السعادات ، فحصل خلاف في فتح الياء وضمها ، وفي الذال ، والدال وفي الضمير في ينفذهم والأصح فتح الياء ، وبالذال المعجمة وأنه بصر المخلوق . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ألا ترى إلى ما قد بلغنا ) هو بفتح الغين هذا هو الصحيح المعروف وضبطه بعض الأئمة المتأخرين وبالفتح والإسكان ، وهذا له وجه ولكن المختار ما قدمناه ، ويدل عليه قوله في هذا الحديث قبل هذا ألا ترون ما قد بلغكم ، ولو كان بإسكان الغين لقال : بلغتم .

                                                                                                                [ ص: 431 ] قوله : ( فيقول آدم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ) المراد بغضب الله تعالى ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما يرونه من أليم عذابه ، وما يشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها ، ولا شك في أن هذا كله لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده مثله ، فهذا معنى غضب الله تعالى كما أن رضاه ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة ; لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى ) ( المصراعان ) بكسر الميم جانبا الباب ، ( وهجر ) بفتح الهاء والجيم وهي مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين ، قال الجوهري في صحاحه : ( هجر ) اسم بلد مذكر مصروف قال : والنسبة إليه ( هاجري ) ، وقال أبو القاسم الزجاجي في الجمل : ( هجر ) يذكر ويؤنث قلت : وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث " إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر " تلك قرية من قرى المدينة كانت القلال تصنع بها وهي غير مصروفة ، وقد أوضحتها في أول شرح المهذب وأما ( بصرى ) فبضم الباء وهي مدينة معروفة بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل ، وهي مدينة حوران بينها وبين مكة شهر .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا تقولون كيفه قالوا : كيفه يا رسول الله ) هذه الهاء هي هاء السكت تلحق في [ ص: 432 ] الوقف . وأما قول الصحابة : ( كيفه يا رسول الله ) فأثبتوا الهاء في حالة الدرج ففيها وجهان حكاهما صاحب التحرير وغيره ، أحدهما : أن من العرب من يجري الدرج مجرى الوقف ، والثاني : أن الصحابة قصدوا اتباع لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي حثهم عليه فلو قالوا : ( كيف ) لما كانوا سائلين عن اللفظ الذي حثهم عليه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إلى عضادتي الباب ) هو بكسر العين قال الجوهري : عضادتا الباب هما خشبتاه من جانبيه .




                                                                                                                الخدمات العلمية