الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
مشاكلة اللفظ للمعنى

ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ، ومنه قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ( آل عمران : 59 ) ولم يقل من " طين " كما أخبر به سبحانه في غير موضع إني خالق بشرا من طين ( ص : 71 ) خلقتني من نار وخلقته من طين ( ص : 76 ) إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب [ ص: 437 ] أمس في المعنى من غيره من العناصر ؛ ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه ، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به .

ومنه قوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء ( النور : 45 ) فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر ؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق ، وليس في العناصر الأربع ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء ؛ ليدخل الحيوان البحري فيها .

ومنه قوله تعالى : تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( يوسف : 85 ) فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها ، فإن " والله " و " بالله " أكثر استعمالا وأعرف من " تالله " لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه ؛ فإن ( كان ) وأخواتها أكثر استعمالا من ( تفتأ ) وأعرف عند العامة ؛ ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة وهي لفظة ( حرض ) ولما أراد غير ذلك قال : وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( فاطر : 42 ) لما كانت جميع الألفاظ مستعملة .

ومنه قوله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ( هود : 113 ) فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين ، وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم ، وكان دون ذلك مشاركتهم في الظلم ، أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم ؛ وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام ، وإن كان المس قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب .

ومنه قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ( المائدة : 28 ) فإنه نشأ في الآية سؤال ، وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبه بالفاعل ، ثم بالمفعول ، فإن كان في الكلام مفعولان : أحدهما تعدى وصول الفعل [ ص: 438 ] إليه بالحرف ، والآخر تعدى بنفسه ، قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه ؛ وعلى ذلك جاء قوله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ( الفتح : 24 ) .

إذا ثبت هذا ، فقد يقال : كيف توخى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها ؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى ، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج ، فيثقل الكلام بسبب ذلك ؛ فإنه لو قيل : " لئن بسطت يدك إلي " والطاء والتاء والياء متقاربة المخرج ، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه ، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية ؛ لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة ، جاء الكلام على ترتيبه ، من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه ، على المفعول الذي تعدى إليه بحرف الجر ، وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ ؛ وأما المعنى فعلى نظم الآية ؛ لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدي على الآلة ، فقال : إلي يدك ولما كان الثاني غير حريص على ذلك ؛ لأنه نفاه عنه ، قدم الآلة فقال : يدي إليك ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل ، وفي الثاني بالاسم .

ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الممتحنة : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ( الممتحنة : 2 ) لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم على الآلة ؛ وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية .

ومثله قوله تعالى : ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( النجم : 31 ) مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية ، [ ص: 439 ] كما أتي به في عجزها ، لكن منعه توخي الأدب والتهذيب في نظم الكلام ؛ وذلك أنه لما كان الضمير الذي في " يجزي " عائدا على الله سبحانه ، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفه ، حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه ، فقال في موضع السيئة : بما عملوا فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى : 40 ) فإن هذا المحذور منه مفقود ، فجرى الكلام على مقتضى الصناعة .

ومنه قوله تعالى : وأنه هو رب الشعرى ( النجم : 49 ) فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم ، وهو رب كل شيء ؛ لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها .

وقوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( الإسراء : 44 ) ولم يقل : " لا تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم .

وقوله حكاية عن إبراهيم : ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ( مريم : 45 ) فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه ؛ حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق له ، ولكنه قال : إني أخاف ( مريم : 45 ) فذكر الخوف والمس ، وذكر العذاب ونكره ، ولم يصفه بأنه يقصد التهويل ، بل قصد استعطافه ، ولهذا ذكر الرحمن ولم يذكر المنتقم ولا الجبار ، على حد قوله :


فما يوجع الحرمان من كف حازم كما يوجع الحرمان من كف رازق

ومنه قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( الأنعام : 10 ) فإنه قد يقال : ما الحكمة في التعبير بالسخرية دون الاستهزاء ؟ وهلا قيل : " فحاق بالذين استهزءوا بهم " ليطابق ما قبله ؟

[ ص: 440 ] والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة ، والسخرية قد تكون في النفس ، ولهذا يقولون : سخرت منه ، كما يقولون : عجبت منه ، ولا يقال : تجنب ذلك لما في ذلك من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات ؛ لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( هود : 38 ) وإنما لم يقل : نستهزئ بكم ؛ لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء .

وأما قوله : الله يستهزئ بهم فالعرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل ؛ كقوله : نسوا الله فنسيهم ( التوبة : 67 ) وهو مجاز حسن ، وأما الاستهزاء الذين نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة لا يرضى به إلا جاهل .

ثم قال سبحانه : فحاق بالذين سخروا منهم ( الأنعام : 10 ) أي : حاق بهم من الله الوعيد البالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم ، فنزلت كل كلمة منزلتها .

وقوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ( البقرة : 149 ) ولم يذكر الكعبة ؛ لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب ، ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وإيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية