الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثاني:

                                468 482 ثنا إسحاق: ثنا ابن شميل: أبنا ابن عون: عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس، ولم تقصر". فقال: " أكما يقول ذو اليدين؟" قالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر.

                                فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم


                                التالي السابق


                                المسئول: "ثم سلم"؟ هو ابن سيرين .

                                [ ص: 586 ] وقد أعاده البخاري في "أبواب سجود السهو" ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.

                                إنما المقصود في هذا الباب منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعد سلامه من الصلاة إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وشبك بين أصابعه، فدل على جواز تشبيك أصابع اليدين في المسجد لغير حاجة إليه.

                                والظاهر: أنه إنما فعله لما غلبه من الهم; فإن ذلك يفعله المهموم كثيرا.

                                وقد رخص في التشبيك في المسجد جماعة:

                                قال وكيع : ثنا الربيع بن صبيح ، قال: رأيت الحسن في المسجد هكذا - وشبك وكيع بين أصابعه.

                                وقال حرب : رأيت إسحاق جالسا في المسجد يقرأ وشبك أصابعه.

                                وقد روي النهي عن التشبيك في المسجد من رواية مولى لأبي سعيد الخدري ، أنه كان مع سعيد وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى رجلا جالسا في وسط المسجد مشبكا أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفطن، فالتفت إلى أبي سعيد ، فقال: "إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه; فإن التشبيك من الشيطان; وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه ".

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وفي إسناده عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ، ضعفه ابن معين .

                                [ ص: 587 ] وروي - أيضا - النهي عن تشبيك الأصابع لمن هو ماش إلى المسجد للصلاة فيه، من حديث كعب بن عجرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه ; فإنه في صلاة ".

                                خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه .

                                وفي إسناده اختلاف كثير واضطراب.

                                وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في "صحيحه" المخرج على "صحيح البخاري " أن حديث كعب بن عجرة وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه إنما يكره التشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصلاة، فأما من قام من الصلاة وانصرف منها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنه صار منصرفا من الصلاة لا منتظرا لها، فلا يضره التشبيك حينئذ.

                                قال: وقد قيل: إن من كان في صلاة ومنتظر الصلاة في جماعة فهم على ائتلاف، فإذا شبك لم يؤمن أن يتطير بهم عدوهم بأنهم سيختلفون، ألا تراه في حديث عبد الله بن عمرو يقول: "مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وصاروا هكذا" - وشبك بين أصابعه، ولم يؤمن أن يكون ذلك سببا أو أمارة لاختلافهم، كما أمرهم بأن يستووا في صفوفهم، وقال: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم". انتهى ما ذكره.

                                [ ص: 588 ] وهو مناسبة بعيدة جدا; فإن التشبيك كما مثل به الاختلاف والافتراق فقد مثل به الائتلاف والتعاون والتناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري في أول الباب، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التعاون والتعاضد والتناصر.

                                ومثل هذه المعاني توجد كثيرا في كتب شروح الحديث المتأخرة، وأكثرها مدخول، ولم يكن علماء سلف الأمة يقعون في شيء من ذلك، وكذلك لم أستكثر من ذكر مثله في هذا الكتاب، وإنما ذكرت هذا لأن الإسماعيلي مع تقدمه ذكره في "صحيحه" ونبهت على ما فيه.

                                وجمع الخطابي في "الأعلام" بين حديث كعب بن عجرة في النهي وحديث أبي هريرة في فعل التشبيك، بأن النهي إنما يحمل على الاحتباء بالتشبيك للأصابع; لأنه يجلب النوم الناقض للوضوء، وما سواه فمباح.

                                فخص الكراهة بحالة الاحتباء، وهذا في غاية البعد; لأن حديث كعب فيه النهي عن التشبيك للعامد إلى المسجد، والمراد به الماشي إليه، والماشي لا يحتبي، وقد ورد مصرحا بذلك في رواية خرجها مسلم في كتاب "العلل" له عن أبي ثمامة القماح ، قال: لقيني كعب بن عجرة وأنا رائح إلى المسجد مشبك بين أصابعي، فضرب يدي ضربة ففرق بينهما، وقال: نهينا أن نشبك بين أصابعنا في الصلاة. فقلت: إني لست في صلاة. فقال: إن الرجل إذا توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج يؤم المسجد فهو في صلاة.

                                وخرجه أبو داود بمعناه، إلا أنه لم يذكر قوله: "إني لست في صلاة" [ ص: 589 ] وصرح برفع آخر الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

                                وأعل محمد بن يحيى الهمداني في "صحيحه" حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وقال: ذكر تشبيك الأصابع ووضع الخد لا أعلم ذكره غير النضر - يعني: ابن شميل - عن ابن عون .

                                وأما تشبيك الأصابع في الصلاة فمكروه.

                                وقد خرج ابن ماجه حديث كعب بن عجرة المتقدم، ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك بين أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.

                                وخرج وكيع ، عن عاصم بن محمد العمري ، عن ابن المنكدر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه، مرسلا.

                                وخرج أبو داود بإسناده عن نافع ، أنه سئل عن الرجل يصلي وهو مشبك أصابعه؟ فقال: قال ابن عمر : تلك صلاة المغضوب عليهم.

                                وكرهه طاوس والنخعي .

                                وقال النعمان بن أبي عياش : كانوا ينهون عن ذلك.

                                وكلام ابن عمر يدل على أنه كره؛ لما فيه من مشابهة أهل الكتاب ، وهو - أيضا - من نوع العبث الذي تنزه عنه الصلاة، ومثله: تفقيع الأصابع.

                                وقد روى الحارث ، عن علي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يفقع أصابعه في الصلاة.

                                وخرجه ابن ماجه .

                                خرج الإمام أحمد من رواية زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن [ ص: 590 ] أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الضاحك في الصلاة، والملتفت، والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة ".

                                وزبان وسهل فيهما ضعف.

                                وفيه: إشارة إلى أن ذلك كله من العبث المنافي للخشوع في الصلاة.



                                الخدمات العلمية