الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1338 9 - حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك . ثم تلا : ولا يحسبن الذين يبخلون الآية .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة مثل ما ذكرنا في مطابقة الحديث الأول .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم ستة ; الأول : علي بن عبد الله المعروف بابن المديني ، تكرر ذكره . الثاني : هاشم بن القاسم ، أبو النضر التميمي - ويقال الليثي - الكناني ، قال الواقدي : مات ببغداد يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة سبع وثمانين ، مر في باب وضع الماء عند الخلاء . الثالث : عبد الرحمن بن عبد الله ، مر في باب الذي يغسل به شعر الإنسان . الرابع : أبوه عبد الله بن دينار ، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب ، مر في باب أمور الإيمان . الخامس : أبو صالح ، واسمه ذكوان الزيات . السادس : أبو هريرة رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده وأنه بصري وأن هاشما خراساني سكن بغداد وعبد الرحمن وأباه وأبا صالح مدنيون ، وفيه رواية الابن عن أبيه ، وجعل أبو العباس الطرقي هذا الحديث والذي قبله حديثا واحدا ، ورواه مالك في موطئه عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح فوقفه على أبي هريرة ، وقال أبو عمر : ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة عند النسائي عن عبد الله بن دينار سأل عن ابن عمر عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال ، وهو عندي خطأ ، والمحفوظ حديث أبي هريرة . وقال أبو عمر : حديث عبد العزيز خطأ بين في الإسناد ; لأنه لو كان عنده عبد الله بن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي هريرة أبدا ، ورواية مالك وعبد الرحمن بن عبد الله فيه هي الصحيحة وهو مرفوع صحيح ، وعند الترمذي من حديث ابن مسعود مثله ، وقال : حسن صحيح . وعند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : ما من صاحب إبل . . . الحديث ، وقد ذكرناه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن عبد الله بن منير عن أبي النضر ، وأخرجه النسائي في الزكاة عن الفضل بن سهل عن الحسن بن موسى الأشيب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه ، وروى النسائي أيضا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، قال : فيلزمه أو يطوقه ، قال : فيقول : أنا كنزك ، أنا كنزك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( من آتاه الله تعالى ) بمد الهمزة ; أي من أعطاه الله .

                                                                                                                                                                                  قوله ( مثل له ) ; أي صور له ماله الذي لم يؤد زكاته شجاعا ، أو ضمن " مثل " معنى التصيير ; أي صير ماله على صورة شجاع . وقال ابن الأثير : ومثل يتعدى إلى مفعولين ، تقول مثلت الشمع فرسا ، فإذا بني لما لم يسم فاعله تعدى إلى مفعول واحد ، فلذا قال : مثل له شجاعا أقرع . قلت : التحقيق فيه أن قوله " مثل " على صيغة المجهول ، الضمير الذي فيه يرجع إلى قوله " مالا " وقد ناب عن المفعول الأول ، وقوله " شجاعا " منصوب على أنه مفعول ثان . وقال الطيبي : "شجاعا " نصب يجري مجرى المفعول الثاني ; أي صور ماله شجاعا . وقال ابن قرقول : وبالرفع ضبطناه ، وهي رواية الطرابلسي [ ص: 253 ] في الموطأ ، ولغيره " شجاعا " كأنه مفعول ثان . وقال ابن الأثير في شرح المسند : وفي رواية الشافعي " شجاع " بالرفع ; لأنه الذي أقيم مقام الفاعل الأول لمثل ، لأنه أخلاه من الضمير وجعل له مفعولا واحدا ، ولا يكون الشجاع كناية عن المال الذي لم تؤد زكاته وإنما هو حقيقة حية يخلق ماله حية تفعل به ذلك ، يعضد ذلك أنه لم يذكر في روايته ماله بخلاف ما في رواية البخاري . قلت : وللبخاري أيضا روايتان في رواية لفظة " ماله " مذكورة ، وفي رواية غير مذكورة " والشجاع الحية " ، وسمي أقرع لأنه يقرع السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه . وفي جامع القزاز : ليس على رءوس الحيات شعر ، ولكن لعله يذهب جلد رأسه . وفي الموعب : الشجاع ضرب من الحيات ، والجمع الشجعان وثلاثة أشجعة . وفي التهذيب : هو الحية الذكر . وقال اللحياني : يقال للحية شجاع وشجاع وشجعان ، ويقال للحية أيضا أشجع . وقال شمر في كتاب الحيات : الشجاع ضرب من الحيات لطيف دقيق ، وهو كما زعموا أجرؤها . وفي المحكم : شجعان بالكسر أكثر . وفي البارع لأبي علي القالي : شجعة بفتح الشين والجيم إذا كان طويلا ملتويا . وفي الاستذكار : وقيل الشجاع الثعبان ، وقيل الحية ، وقيل هو الذي يواثب الفارس والراجل ويقوم على ذنبه ، وربما بلغ وجه الفارس ، ويكون في الصحاري ، والأقرع الذي في رأسه بياض ، وقيل كلما كثر سمه ابيض رأسه . وقال ابن خالويه : ليس في كلام العرب اسم الحيات وصفاتها إلا ما كتبته في هذا الباب ، فذكر أربعة وثمانين اسما .

                                                                                                                                                                                  قوله ( زبيبتان ) بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة الأولى ، الزبد في الشدقين إذا غضب ، يقال تكلم فلان حتى زبد شدقاه أي خرج الزبد عليهما . وقال أبو المعاني في المنتهى : الزبيبتان الزبدتان في الشدقين ، ومنه الحية ذو الزبيبتين وهما النكتتان السوداوان فوق عينيه ، وقيل هما نقطتان تكتنفان فاها . وقال الداودي : هما نابان يخرجان من فيها . وأنكر بعضهم هذا وقال : هذا لا يوجد . ويقال : الحية ذو الزبيبتين أخبث ما يكون من الحيات . وقال أبو عمر : هما علامات الحية الذكر المؤذي . وقال ابن حبيب عن مطرف : له زبيبتان في خلقه بمنزلة زنمتي العنز . وفي المسالك لابن العربي : سئل مالك عن الزبيبتين فقال : أراهما شنشنتين تكونان على رأسه مثل القرنين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يطوقه ) بفتح الواو ; يجعل طوقا في عنقه ، وفي رواية " وحتى يطوقه " ، وفي التلويح قال أبو السعادات : يجوز أن تكون الواو - أي - مفتوحة ; يعني حتى يطوقه الله تعالى في عنقه ، كأنه قيل يجعل له طوقا . وقال الطيبي : وهو تشبيه لذكر المشبه والمشبه به كأنه قيل : يجعله كالطوق في عنقه . قلت : الضمير الذي فيه مفعوله الأول ، والضمير البارز مفعوله الثاني وهو يرجع إلى " من " في قوله " من آتاه الله مالا " ، والضمير المستتر يرجع إلى الشجاع . وفي التلويح : الهاء عائدة إلى الطوق لا إلى المطوق ، وفيه ما فيه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بلهزمتيه ) بكسر اللام وسكون الهاء وكسر الزاي ، تثنية لهزمة . قال ابن سيده : اللهزمتان مضيغتان في أصل الحنك ، وقيل هما مضيغتان في منحنى اللحيين أسفل من الأذنين وهما معظم اللحيين ، وقيل هما ما تحت الأذنين من أعلى اللحيين والخدين ، وقيل هما مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من اللحي ، زاد صاحب الموعب : لهزمتان يقال شنشنان ، ويقال للفرس الموسوم على ذلك المكان ملهوز . وفي الجامع : هي لحم الخدين اللذين يتحرك إذا أكل الإنسان ، والجمع اللهازم . وفي الجمهرة : لهزمه إذا ضرب لهزمته . وقال ابن العربي : هما الماضغتان اللتان بين الأذن والفم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يعني شدقيه ) بكسر الشين ، هذا التفسير في الحديث أي جانبي الفم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم يقول ) الشجاع المصور من المال ( أنا مالك ، أنا كنزك ) يخاطب به صاحب المال لمزيد الغصة والهم ; لأنه شر أتاه من حيث كان يرجو فيه خيرا ، وفيه نوع تهكم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم تلا ) ; أي قرأ - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون الآية ، وتلاوته - صلى الله عليه وسلم - هذه تدل على أنها نزلت في مانع الزكاة ، وقيل إن المراد بها اليهود لأنهم بخلوا ، والمعنى : سيطوقون الإثم . وتأول مسروق أنها نزلت فيمن له مال فيمنع قرابته صلته فيطوق حية كما سلف ، وأكثر العلماء على أن ذلك في الزكاة المفروضة ، وقيل في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه دلالة على فرضية الزكاة لأن الوعيد الشديد يدل على ذلك ، وفيه ما يدل على قلب الأعيان وذلك في قدرة الله تعالى هين لا ينكر ، وفيه أن لفظ " مالا " بعمومه يتناول الذهب والفضة وغيرهما من الأموال الزكوية ، وقال المهلب : لم ينقل عن الشارع زكاة الذهب من طريق الخبر كما نقل عنه زكاة الفضة . قلت : صح من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات مطولا ، [ ص: 254 ] وفيه : وفي كل أربعين دينارا دينار . رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما ، وكان صرف الدينار عشرة دراهم ، فعدل المسلمون بخمس أواق من الفضة عشرين مثقالا وجعلوه زكاة نصاب الذهب وتواتر العمل به ، وعليه جمهور العلماء أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا - وقيمتها مائتا درهم - فيها نصف دينار إلا ما روي عن الحسن أنه ليس فيما دون أربعين دينارا زكاة ، وهو شاذ لا يعرج عليه ، وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم ففيه زكاة وإن كان أقل من عشرين مثقالا ، وهو قول عطاء وطاوس والزهري ، فجعلوا الفضة أصلا في الزكاة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية