الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تكونوا أول كافر به ) : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة ، فإنه يبقى مفردا مذكرا ، والنكرة تطابق ما قبلها ، فإن كان مفردا كان مفردا ، وإن كان تثنية كان تثنية ، وإن كان جمعا كان جمعا ، فتقول : زيد أفضل رجل ، وهند أفضل امرأة ، والزيدان أفضل رجلين ، والزيدون أفضل رجال . ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة ، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا ، وأجاز أبو العباس : إخوتك أفضل رجل ، بالإفراد ، ومنع ذلك الجمهور . وإن كانت صفة ، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد ، قال الشاعر ، أنشده الفراء :


وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع

فأفرد بقوله : ( طاعم ) وجمع بقوله : ( جياع ) .

وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأول ، قال الفراء : تقديره : من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفا لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه . وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلا : الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم . وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع . وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره عندهم : أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى . وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو . وعلى ما قررناه تأولوا ( أول كافر ) بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر . والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانيا أو آخرا ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد . ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن ( أول ) صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جدا . وزعم بعضهم أن ثم محذوفا معطوفا تقديره : ولا تكونوا أول كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر :


من أناس ليس في أخلاقهم     عاجل الفحش ولا سوء جزع



لا يريد أن فيهم فحشا آجلا ، بل أراد لا فحش عندهم ، لا عاجلا ، ولا آجلا ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا [ ص: 178 ] أول كافر به مع المعرفة ; لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله . وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه . وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، قال تعالى : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون . والضمير في ( به ) عائد على الموصول في ( بما أنزلت ) وهو القرآن ، قاله ابن جريج ، أو على محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ودل عليه المعنى ; لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله الزجاج ، أو على الموصول في ( لما معكم ) لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ; لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة .

( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) . الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال :


كما اشترى المسلم إذ تنصرا



وقال آخر :


فإني شريت الحلم بعدك بالجهل



ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمنا ; لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ; لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهما بدينار معناه : أخذت الدينار بدلا عن الدرهم ، والمعنى ، والله أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة . ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمنا قليلا وأخذوا الآيات . قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كل ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء . انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمنا ومثمنا ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن . وقيل : بكتمان آياتي ، قاله السدي . وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي .

وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر والقول بعدها اختلفوا في المعني بقوله : ( ثمنا قليلا ) فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعا منه في شريعتهم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا عنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعا لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي جعل [ ص: 179 ] الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ; لأن ما حصل عوضا عن آيات الله كائنا ما كان لا يكون إلا قليلا ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل ) ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلا ، ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمنا قليلا ولا كثيرا ، فحذف لدلالة المعنى عليه . وقد استدل بعض أهل العلم بقوله : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم . وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجرا ، فقال : " إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ، وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة ; لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مر تفسيرها .

( وإياي فاتقون ) : الكلام عليه إعرابا كالكلام على قوله : ( وإياي فارهبون ) ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة . قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأما الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقى منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى ; لأن تعين العقاب قائم . انتهى كلامه . ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : ( فارهبون ) ، وقيل في هذا : ( فاتقون ) أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به . والأحسن أن لا يقيد ( ارهبون واتقون ) بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولا واضحا ، فكان المعنى : ارهبون إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشتريتم بآياتي ثمنا قليلا .

( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) : أي الصدق بالكذب ، قاله ابن عباس ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، قاله مجاهد ، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها ، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد ، أو الأمانة بالخيانة ; لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة ، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله ، أو الإقرار بنبوة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم ، قاله أبو العالية ، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم ، أو صفة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بصفة الدجال ، وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله ( بالباطل ) للإلصاق ، كقولك : خلطت الماء باللبن ، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل ، فلا يتميز الحق من الباطل ، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة ، كهي في كتبت بالقلم ، قال : كأن المعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم ، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب ، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك .

( وتكتموا الحق ) : مجزوم عطفا على تلبسوا ، والمعنى : النهي عن كل واحد من الفعلين ، كما قالوا : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، بالجزم نهيا عن كل واحد من الفعلين ، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن ، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم ، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف . والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو ، وهذا مذكور في علم النحو ، وما جوزوه ليس بظاهر ; لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحبا على الجمع بين الفعلين ، كما إذا قلت : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، معناه النهي عن الجمع بينهما ، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما ، وذلك منهي عنه ، فلذلك رجح الجزم .

التالي السابق


الخدمات العلمية