الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة، قبل أن ننتقل منها إلى قصة صالح . ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون.. ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان. وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة. وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك; ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان.. وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد; ودليلها في الحركة في كل حين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا. ولكنها مرت في [ ص: 1902 ] مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق. وهي تحتاج إلى وقفات أمامها أطول في حدود الإجمال:

                                                                                                                                                                                                                                      نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة.. دعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: " قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .. ولقد كنا دائما نفسر "العبادة" لله وحده بأنها "الدينونة الشاملة" لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي.. فإن "عبد" معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد طريق مذلل ممهد. وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذللا.. ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله; وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره.. ولقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العبادة" نصا بأنها هي "الاتباع" وليست هي الشعائر التعبدية. وهو يقول لعدي بن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا: "بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم".. إنما أطلقت لفظة "العبادة" على "الشعائر التعبدية" باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون.. صورة لا تستغرق مدلول "العبادة" بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلما بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة " في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلا! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح "مسلما" لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ... إلى أخر حقوق المسلم على المسلم!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة" التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه - وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة; والذي نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصا وهو يفسر قول الله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .. وليس بعد تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي .. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه; وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها; وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة" [ ص: 1903 ] في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها; ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها.. والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله.. فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده - أي الدينونة له وحده - إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده: وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد .

                                                                                                                                                                                                                                      كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين..

                                                                                                                                                                                                                                      وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل، واتباع الجبارين.. فهو أمر واحد لا أمور متعددة.. ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله. ودانوا للطواغيت بدلا من الدينونة لله; فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله; وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك - وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض; فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض; وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض. إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام.. وهكذا إلى يومنا هذا..

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات; وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.

                                                                                                                                                                                                                                      إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامه، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة "بالإنسان" إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها. (وهذا ما نرجو أن نزيده بيانا - إن شاء الله - في نهاية قصص الرسل في ختام السورة) ..

                                                                                                                                                                                                                                      ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين.. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت; وبخاصة في نفوس الذين [ ص: 1904 ] يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية.. والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض; والحق المتمثل في الدينونة لله وحده.. والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة.. وذلك في مثل هذه النصوص:

                                                                                                                                                                                                                                      وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا.. إن كنا فاعلين.. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون، وله من في السماوات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون. أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ... (الأنبياء 16 - 25) .

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، لنبين لكم، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم - من بعد علم - شيئا، وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ... (الحج: 5 - 7) .

                                                                                                                                                                                                                                      وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم. الملك يومئذ، لله يحكم بينهم، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين. والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وإن الله لهو خير الرازقين. ليدخلنهم مدخلا يرضونه، وإن الله لعليم حليم. ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله، إن الله لعفو غفور. ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وأن الله سميع بصير. ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير. ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ إن الله لطيف خبير. له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد. ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرءوف رحيم. وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، إن الإنسان لكفور. لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه، فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم ... .. (الحج: 54 - 67) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1905 ] وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق. وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق.. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء; وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء. ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا ... فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره، وفي تدبيره وتصريفه، وفي حسابه وجزائه، في الخير وفي الشر سواء..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا الارتباط مجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس. فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة. سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم. أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك. وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان، من النتائج المحسوسة المدركة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة: إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع، وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة.. وحين قلنا مرة: إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة، لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلا على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد.. وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس .. (وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله) . / 50 ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1906 ] كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون؟ إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين. إن هذا إلا خلق الأولين. وما نحن بمعذبين ! .. (الشعراء: 123 - 138)

                                                                                                                                                                                                                                      فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة; والذين أبطرتهم النعمة; والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود!.. هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة، بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك; وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد.. ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض، وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء، ولا يضرونه شيئا، ولا يردون له قضاء.. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن أصحاب الدعوة إلى الله لابد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم.. أمام القوة المادية. وقوة الصناعة. وقوة المال. وقوة العلم البشري. وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات.. وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة; وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب!

                                                                                                                                                                                                                                      وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان.. أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه. وأمة تتخذ من دون الله أربابا، وتحاد الله!

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده.. وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية