الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده ؟ إن كان له ضد واحد كصوم العيد فالنهي عن صومه أمر بضده . وهو الفطر فلا خلاف ، وإلا لأدى إلى التناقض ، ومثله الأمر بالإيمان نهي عن الكفر ، وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا من القعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها ، وكالزنى فإن من أضداده الصلاة والنوم والمشي وغيرها ، فهو محل الخلاف .

                                                      [ ص: 353 ] قيل : نهي عن جميع أضداده ، وقيل : عن واحد منها لا بعينه . حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي " . واعلم أن الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين : أحدهما : النفساني ، واختلف المثبتون له في أن الأمر بشيء معين هل هو نهي عن ضده الوجودي على مذاهب : أحدها : أنه ليس نهيا عن ضده لا لفظا ولا يقتضيه عقلا ، واختاره الإمام والغزالي وإلكيا الطبري وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم وابن برهان وصاحب الواضح " والمعتمد " وإمام الحرمين في التلخيص " عن المعتزلة بناء على أصلهم في اعتبار إرادة الناهي ، وذلك غير معلوم . لكن نقل إمام الحرمين في البرهان " عنهم أنه يتضمنه وهو محمول على اللسان كما سيأتي فتفطن له .

                                                      وقال إمام الحرمين وإلكيا في تعليقه " : إن هذا الذي استقر عليه رأي القاضي أبي بكر بعد أن كان يقول : إنه نهي عن ضده . والثاني : أنه نفس النهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى بناء على أن الأمر لا صيغة له ، واتصافه بكونه أمرا ونهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بكونه قريبا من شيء ، بعيدا من شيء . وهذا قول الشيخ أبي الحسن الأشعري ، والقاضي ، وأطنب في نصرته في التقريب " ونقله عن جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن ، ونقله في المنخول " عن الأستاذ أبي إسحاق والكعبي ، ونقله ابن برهان في [ ص: 354 ] الأوسط " عن العلماء قاطبة ، وقال صاحب اللباب " : هو قول أبي بكر الجصاص وهو أشبه . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : هو قول المتكلمين منهم الأشعري وغيره أنه نهي عن ضده من حيث اللفظ والمعنى ، لأن الأمر لا صيغه له .

                                                      قال ابن دقيق العيد : وهذا المذهب لا يتأتى مع القول بأن الأمر هو القول ; لأن إحدى الصيغتين لا تكون عين الأخرى قطعا فليؤول على أنه يستلزمه . انتهى . وهو عجب ; لأن الأشعري بناه على أن الأمر لا صيغه له كما سبق نقله عن القاضي عبد الوهاب وغيره ، وكذلك قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : بنى الأشعري هذا على أصله في أن الأمر لا صيغه له ، وإنما هو معنى قائم بالنفس ، وكذلك للنهي ، فالأمر عندهم هو نفس النهي من هذا الوجه .

                                                      وقال الهندي : لم يرد القائل أن صيغة " تحرك " مثلا غير صيغة " لا تسكن " فإن ذلك معلوم الفساد بالضرورة بل يعني أن المعنى المعبر عنه ب تحرك عين المعنى المعبر عنه ب لا تسكن ، وقالوا : إن كونه أمرا ونهيا بالنسبة إلى الفعل وضده الوجودي لكون الحركة قربا وبعدا بالنسبة إلى جهتين ، وقد وجهه الماوردي بأن الأمر له متعلقان متلازمان اقتضاء الفعل والإيقاع ، والنهي عن الفعل والاجتناب ، وترك الفعل فعل آخر ، وهو ضد المتروك والثالث : أنه ليس هو ولكن يتضمنه من طريق المعنى ، وبه جزم القاضي أبو الطيب ، ونصره الشيخ أبو إسحاق في التبصرة " وابن الصباغ في العدة " ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم عن أكثر أصحابنا قال : وهو قول أكثر الفقهاء كافة وقال ابن السمعاني : هو [ ص: 355 ] مذهب عامة الفقهاء ونقله عبد الوهاب عن أكثر أصحاب الشافعي قال : وهو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا ، وإن لم يصرحوا به ، وقال الباجي : عليه عامة الفقهاء واختاره الآمدي والإمام فخر الدين ، وقال أبو زيد الدبوسي في التقويم " : إنه المختار وبه جزم أبو منصور الماتريدي ، فقال : إنه نهي عن ضده بدلالة الالتزام وكذا ا قال البزدوي والسرخسي منهم ، وقال إمام الحرمين وابن القشيري والمازري : إن القاضي مال إليه في آخر مصنفاته .

                                                      وقال صاحب الواضح " : وقصد الفقهاء من هذه المسألة أن الأمر للوجوب فلهذا قالوا : إنه نهي عن ضده ثم رد الإمام على من قال : هو عينه بأنه جحد للضرورة فإن القول المعبر عنه " ب افعل " مغاير للمعبر عنه ب " لا تفعل " قيل : وهذا منه غلط أو مغالطة ; إذ ليس الكلام في " افعل " و " لا تفعل " بل في " افعل " و " لا تترك " وليس بطلان اتحاد مدلولهما ضروريا ، وأبطل مذهب التضمن بأن الأمر قد لا يخطر له الضد ، ولو خطر له فلا قصد له في تركه إلا على معنى أن ذلك وسيلة إلى المأمور به ، واعترف بأنه يرى استلزام الوجوب الوعيد على الترك فكيف لا يخطر له الضد من الترك ولا بد أن يكون متوعدا عليه ؟ ثم هذا الخلاف في الكلام النفسي بالنسبة إلى المخلوق ; لأنه الذي يغفل عن الضد ، وأما الله - تعالى - فكلامه واحد لا يتطرق إليه ذهول كما صرح به الغزالي وابن القشيري . واحترزنا بقولنا : معين عن الواجب المخير والموسع ، فإن الأمر بهما ليس نهيا عن الضد .

                                                      والمسألة مقصورة على الواجب المعين صرح به الشيخ أبو حامد الإسفراييني والقاضي في التقريب " . واحترزنا بالوجودي عن الترك فإن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق [ ص: 356 ] التضمن قطعا كما قاله الهندي وغيره ، وإنما الخلاف في أنه هل هو نهي عن ضده الوجودي ؟ المقام الثاني بالنسب إلى الكلام اللساني عند من رأى أن للأمر صيغة ، وفيه مذهبان : أحدهما : أن الأمر يتضمن النهي عن الضد ، وهو رأي المعتزلة منهم عبد الجبار ، وأبو الحسين . قال ابن الأنباري : وإنما ذهبوا إلى ذلك لإنكارهم كلام النفس ، والكلام عندهم ليس إلا العبارات ، فلم يمكنهم أن يقولوا : الأمر بالشيء نهي عن ضده ، لاختلاف الألفاظ قطعا ، فقالوا : إنه يقتضيه ويتضمنه ، وليس يعنون بذلك إشعارا لغويا أو أمرا لفظيا فقط ، ولكنهم يقولون : الأمر قول القائل لمن دونه : " افعل " مع إرادات ، ومريد الشيء لا بد وأن يكون كارها لضده ، فيلزم أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده .

                                                      وفرق إمام الحرمين بين هذا القول وقول القاضي آخرا بأن المعتزلة يقولون : صيغه الأمر تقتضي النهي ، وذلك الاقتضاء راجع إلى فهم معنى من لفظ من يشعر به ، والقاضي يقول بالكلام النفسي ، وما يقوم بالنفس لا إشعار له بغيره ، ولكنه يقول : إذا قام بالنفس الأمر الحقيقي فمن ضروراته أن يقوم بالنفس معه قول آخر هو نهي عن أضداد المأمور به ، كما يقتضي قيام العلم بالمحل قيام الحياة به . والثاني : أنه لا يدل عليه أصلا . وجزم به النووي في الروضة " في كتاب الطلاق ، ولا يمكن أحد هنا أن يقول : إنه هو ، فإن صيغة " تحرك " غير صيغة " لا تسكن " قطعا .

                                                      [ ص: 357 ] ولبعض المعتزلة مذهب ثالث ، وهو أن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ومقبحا لها ، لكونها مانعة من فعل الواجب المندوب فإن أضداده مباحة غير منهي عنها ، ولا تنزيه غالبا ، واختار الآمدي أن يقال : إن جوزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيا عن الضد ، ولا مستلزما للنهي عنه ، بل يجوز أن يؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة ، وإن منع فالأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده . واختاره الهندي أنه نهي عن ضده بطريق الاستلزام ، لا أنه وضده يستلزم ذلك بل مع مقدمة أخرى ، وهي أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لو قيل : باستحالة تكليف ما لا يطاق وقال أبو الحسين في المعتمد " ليس الخلاف في تسمية الأمر حقيقة لبطلانه ، ولا في أن صيغة " لا تفعل " موجودة في الأمر ; لأن الحس يدفعه ، بل في أنه نهي عن ضده في المعنى .

                                                      واعلم أن الذي دلنا على الفصل بين المقامين وتنزيل خلاف كل قوم على حالة أن الشيخ والقاضي لم يتكلما إلا في النفسي ، ويدل لذلك قولهما : إن اتصافه بالأمر والنهي على ما سبق والإمام في المحصول " اختار أن الأمر يتضمن النهي عن ضده ، والظاهر أن كلامه في اللساني ; لأنه عبر بالصيغة ، وخلاف المعتزلة أنما يتصور فيه لأنهم ينكرون النفسي ، ولا أمر عندهم إلا بالعبارة . إذا علمت ذلك فقد استشكل تصوير المسألة بأنه إن كان الكلام في [ ص: 358 ] النفساني بالنسبة إلى الله - تعالى ، فالله - تعالى - بكل شيء عليم ، وكلامه واحد ، وهو أمر ونهي وخبر واحد بالذات متعدد بالمتعلقات ، وحينئذ فأمر الله عين نهيه ، فكيف يتجه فيه خلاف ؟ وإن كان الخلاف بالنسبة إلى المخلوق فقط كما صرح به الغزالي وابن القشيري فكيف يقال : هو أو يتضمنه مع احتمال ذهوله عن الضد مطلقا ؟ وهذا هو عمدة إمام الحرمين كما سبق . وجوابه : أن القائل بأنه أجراه مجرى العلم المتعلق بمتلازمين كيمين وشمال وفوق وتحت ، فإن من المستحيل علم الفوق وجهل التحت وعكسه ، وكذلك يستحيل أن يتعلق الأمر بالنفسي باقتضاء فعل ، ولا يتعلق النهي عن تركه ، وإنما الإشكال على القول بتضمنه النهي .

                                                      وجوابه ما ذكره إمام الحرمين أن هؤلاء لا يعنون بالاقتضاء ما يريده المعتزلة ، وإنما هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي مقارنة نهي نفسي أيضا يجري ذلك مجرى الحياة في العلم ، فإن العلم إذا وجد اقتضى وجود الحياة . وممن جزم أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو بالنسبة إلى الكلام اللساني لا النفساني القرافي ، وتبعه عليه التبريزي في التنقيح " ، فقال : لا يتحقق هذا الخلاف في كلام الله - تعالى ; لأن مثبتي كلام النفس مطبقون على اتحاد كلام الله من أمر ونهي ووعد ووعيد واستفهام إلى جميع الأقسام الواقعة في الكلام ، فهو - تعالى - آمر بعين ما هو ناه عنه ، ولا شك أن قول القائل : " تحرك " غير قوله : " لا تسكن " وإنما النظر في قوله : " افعل " إنما يتضمن ذلك - على خلاف فيه - طلب الفعل فهو طالب ترك ضده أم لا ؟ وكذا قال الصفي الهندي : هذا النزاع غير متصور في كلام الله - تعالى - على رأي من يرى اتحاده ، بل في كلام المخلوقين وفي كلام الله - تعالى - على رأي من يرى تعدده .

                                                      [ ص: 359 ] وقال ابن القشيري : الكلام في هذه المسألة مع مثبتي كلام النفس أما من نفاه فلا يمكنه أن يقول : الأمر عين النهي فإن صيغة " افعل " غير صيغة " لا تفعل " لكنهم قالوا : يقتضيه من طريق المعنى قال : وصار إلى هذا ضعفة الفقهاء ، ومن لم يتحقق عنده كلام النفس .

                                                      ثم قال : الخلاف في أمر المخلوق ، أما كلام الله فهو قديم ، وهو صفة واحدة يكون أمرا بكل مأمور ، ونهيا عن كل نهي ، خبرا عن كل مخبر ، ثم قال في آخر المسألة : والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده يلزم المصير إلى مذهب الكعبي ; لأن من ضرورة ارتكاب المباح أن يترك محظورات ، فوجه النظر إلى مقصود الآمر والناهي والمبيح لا فيما يقع من ضرورة الجبلة ، وهذا نهاية المسألة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية