الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        المال المستحق للإنسان عند غيره ، عين ودين . أما الثاني ، فسيأتي في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى . وأما الأول : فضربان ، أمانة ومضمون .



                                                                                                                                                                        [ الضرب ] الأول : الأمانات ، فيجوز للمالك بيعها ، لتمام الملك ، وهي كالوديعة في يد المودع ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل ، والمال في يد الوكيل في البيع ونحوه ، وفي يد المرتهن بعد فكاك الرهن ، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة ، والمال في يد القيم بعد بلوغ الصبي رشيدا ، وما كسبه العبد باحتطاب وغيره ، أو قبله بالوصية قبل أن يأخذه السيد . ولو ورث مالا ، فله بيعه قبل أخذه ، إلا إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضا مثل ما اشتراه ولم يقبضه .

                                                                                                                                                                        ولو اشترى من مورثه شيئا ، ومات المورث قبل التسليم ، فله بيعه ، سواء كان على االمورث دين أم لا . وحق الغريم يتعلق بالثمن ، فإن كان له وارث آخر ، لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الآخر حتى يقبضه . ولو أوصى له بمال ، فقبل الوصية بعد موت الموصي ، فله بيعه قبل قبضه . وإن باعه بعد الموت وقبل القبول ، جاز إن قلنا : تملك الوصية بالموت . وإن قلنا : بالقبول ، أو [ هو ] موقوف ، فلا .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : المضمونات ، وهي نوعان .

                                                                                                                                                                        الأول : المضمون بالقيمة ، ويسمى ضمان اليد ، فيصح بيعه قبل القبض ، لتمام الملك فيه . ويدخل فيه ما صار مضمونا بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره . حتى لو باع [ ص: 511 ] عبدا ، فوجد المشتري به عيبا وفسخ البيع ، كان للبائع بيع العبد وإن لم يسترده ، قال في " التتمة " : إلا إذا لم يؤد الثمن ، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع الثمن . ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه ، فللمسلم بيع رأس المال قبل استرداده . وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بإفلاس المشتري ، ولم يسترده بعد . ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستام ، وفي يد المشتري والمتهب في الشراء والهبة الفاسدين . ويجوز بيع المغصوب للغاصب . .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : المضمون بعوض في عقد معاوضة ، لا يصح بيعه قبل القبض ، لتوهم الانفساخ بتلفه ، وذلك كالمبيع والأجرة والعوض المصالح عليه عن المال . وفي بيع الصداق قبل القبض قولان ، بناء على أنه مضمون على الزوج ضمان العقد أو ضمان اليد ؟ والأظهر : ضمان العقد . ويجري القولان في بيع الزوج بدل الخلع قبل القبض ، وبيع العافي عن القود المال المعفو عليه قبل القبض لمثل هذا المأخذ .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        وراء ما ذكرنا صور ، إذا تأملتها عرفت من أي ضرب هي . فمنها : حكى صاحب " التلخيص " عن نص الشافعي رضي الله عنه : أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس ، يجوز بيعها قبل القبض . فمن الأصحاب من قال : هذا إذا أفرزه السلطان ، فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز له ، ويكفي ذلك لصحة البيع . ومنهم من لم يكتف بذلك ، وحمل النص على ما إذا وكل وكيلا في قبضه ، فقبضه الوكيل ، ثم باعه الموكل ، وإلا فهو بيع شيء غير مملوك ، وبهذا قطع القفال في الشرح . [ ص: 512 ]

                                                                                                                                                                        قلت : الأول : أصح وأقرب إلى النص . وقوله : وبه قطع القفال ، يعني بعدم الاكتفاء ، لا بالتأويل المذكور ، فإني رأيت في شرح " التلخيص " للقفال ، المنع المذكور . قال : ومراد الشافعي رضي الله عنه بالرزق ، الغنيمة ، ولم يذكر غيره . ودليل ما قاله الأول ، أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة ، احتمل للمصلحة والرفق بالجند ، لمسيس الحاجة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومنها : بيع أحد الغانمين نصيبه على الإشاعة قبل القبض ، صحيح إذا كان معلوما وحكمنا بثبوت الملك في الغنيمة . وفيما يملكها به خلاف مذكور في بابه . ومنها : لو رجع فيما وهب لولده ، فله بيعه قبل قبضه على الصحيح . ومنها : الشفيع إذا تملك الشقص ، قال في " التهذيب " : له بيعه قبل القبض . وقال في " التتمة " : ليس له ذلك ; لأن الأخذ بها معاوضة .

                                                                                                                                                                        قلت : الثاني أقوى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومنها : للموقوف عليه بيع الثمرة الخارجة من الشجرة الموقوفة قبل أن يأخذها . ومنها : إذا استأجر صباغا لصبغ ثوب وسلمه إليه ، فليس للمالك بيعه قبل صبغه ; لأن له حبسه لعمل ما يستحق به الأجرة . وإذا صبغه ، فله بيعه قبل استرداده إن دفع الأجرة ، وإلا فلا ؛ لأنه يستحق حبسه إلى استيفاء الأجرة . ولو استأجر قصارا لقصر ثوب وسلمه إليه ، لم يجز بيعه قبل قصره ، فإذا قصره ، بني على أن القصارة عين فيكون كمسألة الصبغ ، أو أثر ، فله البيع ، [ ص: 513 ] إذ ليس للقصار الحبس على هذا ، وعلى هذا قياس صبغ الذهب ، ورياضة الدابة ، ونسج الغزل . ومنها : إذا قاسم شريكه ، فبيع ما صار له قبل قبضه يبنى على أن القسمة بيع ، أو إفراز ؟ ومنها : إذا أثبت صيدا بالرمي ، أو وقع في شبكه ، فله بيعه وإن لم يأخذه ، ذكره صاحب " التلخيص " هنا ، قال القفال : ليس هو مما نحن فيه ؛ لأنه بإثباته قبضه حكما .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض ، كالولد ، والثمرة ، يبنى على أنها تعود إلى البائع لو عرض انفساخ ، أو لا تعود ، فإن أعدناها ، لم يتصرف فيها كالأصل ، وإلا تصرف . ولو كانت الجارية حاملا عند البيع ، وولدت قبل القبض ، إن قلنا : الحمل يقابله قسط من الثمن ، لم يتصرف فيه ، وإلا فهو كالولد الحادث بعد البيع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا باع متاعا بدراهم ، أو بدنانير معينة ، فلها حكم المبيع ، فلا يجوز تصرف البائع فيها قبل قبضها ، لأنها تتعين بالتعيين ، فلا يجوز للمشتري إبدالها بمثلها ، ولو تلفت قبل القبض انفسخ البيع ، ولو وجد البائع بها عيبا ، لم يستبدل بها ، بل إن رضيها ، وإلا فسخ العقد ، فلو أبدلها بمثلها ، أو بغير جنسها برضا البائع ، فهو كبيع المبيع للبائع .

                                                                                                                                                                        [ ص: 514 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية