الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

                                                          * * *

                                                          بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة، وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها، ثم ذكر سبحانه وتعالى، التكليفات الشرعية التي هي [ ص: 2062 ] بناء الجماعات الإنسانية، وأنها ميثاق الله تعالى واثق به عباده، فوعدهم بالثواب عليه، وتعهدوا موثقين العهد بالسمع والطاعة، والاستجابة لما كلفوا القيام به، ثم بين سبحانه وتعالى أن أساس العلاقات الإنسانية العامة العدالة، وليس الحب والبغض: فإنهما يسيران أحيانا وراء الهوى، والهوى فساد، والعدالة صلاح، وهي التقوى، وما يقرب إليها ويدني منها، وفي الآية الآتية وما يليها بين سبحانه جزاء المهتدين، وعقاب الكافرين، وهو الوعد الذي وعد به عباده، ويبين سبحانه أنه لا يصح أن تؤدي قوة أهل الإيمان إلى ترك العدل، وذكرهم سبحانه بحالهم أيام كانوا مستضعفين في الأرض، وهم المشركون أن يبسطوا أيديهم بالأذى فكفها سبحانه وتعالى عنهم، فقال:

                                                          وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم هذا هو الوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذي واثقكم به من جانبه، جل جلاله، في نظير السمع والطاعة والاستجابة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه.

                                                          وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق، وهو الإيمان والطاعة، إذ قالوا سمعنا وأطعنا، وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان، فالإيمان: هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى:

                                                          وعملوا الصالحات وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقترن به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا، والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل. [ ص: 2063 ] والعمل الصالح الذي هو الطاعة، والذي هو استجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه هو العمل الذي يكون فيه نفع للناس، ودفع للفساد في الأرض، وليس فيه ما يسوء أهل الخير، وقد جاء في كتاب غريب القرآن للأصفهاني: "الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة قال تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [التوبة]، وقال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [الأعراف].

                                                          وقال تعالى: الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مواضع كثيرة ... وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح ...".

                                                          وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه، أو تنفيذ لقول المؤمنين: "سمعنا وأطعنا" فمؤدى ذلك أن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم، والرحمة بهم، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء]، وعلى ذلك لا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقول: إن نصوص القرآن أو السنة جاءت بأحكام فيها مضرة; فإن ذلك أقصى العناد، وغاية ما يريده أهل الفساد، وما يبتغيه الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.

                                                          وقد ذكر سبحانه وتعالى ما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم فهذا النص الكريم هو بيان للوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، فذكر الوعد بهما في قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم ذكر البيان، وفي ذكر البيان بعد الإبهام فضل تمكين للإعلام، [ ص: 2064 ] وتثبيت للمعرفة، والوعد الذي وعد الله تعالى به يتكون من أمرين عظيمين: أحدهما مغفرة عظيمة، والثاني أجر عظيم، أما المغفرة فمعناها: ستر الذنوب وإخفاؤها، وإخفاء الذنوب من الله تعالى معناه ألا يقيم لها وزنا ويعفو عنها ويكفر السيئات ولا يجازي عليها، وأما إخفاؤها في الدنيا، فذلك لأن العمل الصالح يلقي في النفس نورا فيذهب أعتامها، إذ إن المرء إذا ارتكب سيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمرت السيئات ولم يكن ثمة عمل صالح، تكاثرت النكت السوداء حتى يربد القلب ويسود، وإن كان العمل الصالح أشرق النور فاختفت السيئات، وهذا معنى قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات [هود]. ونكرت كلمة "مغفرة" للدلالة على عظمتها، وأنها مغفرة عظيمة لا تحيط بها المدارك البشرية.

                                                          هذا هو الأمر الأول، أما الأمر الثاني: فهو الأجر العظيم، وهو الثواب، وسماه الله تعالى أجرا، أي أنه استحقاق على عمل صالح، وذلك كان من الله تكرما وفضلا، فكل شيء بفضل الله تعالى، وهو ذو الفضل العظيم.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية