الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 489 ] وبناء مسجد للكراء ، [ ص: 490 - 491 ] وسكنى فوقه

التالي السابق


( و ) يكره ( بناء مسجد للكراء ) لمن يصلي فيه فيها لا يصلح لأحد أن يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه . الباجي لا يصلح على التحريم ، وهذا خلاف ما هنا . وفي التهذيب لا يصلح أن يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه أو يكري بيته ممن يصلي فيه ، وأجاز [ ص: 490 ] ذلك غيره في البيت . ابن يونس لا يجوز لأحد أن يبني مسجدا ليكريه لمن يصلي فيه ، ثم قال ابن القاسم ومن أجر بيته من قوم ليصلوا فيه في رمضان فلا يعجبني ذلك ، كمن أكرى المسجد . وقال غيره لا بأس بذلك في كراء البيت . ابن عرفة وفيها لا يصلح أن يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه ولا بيته فإجارتهما لذلك لا تجوز ، وأجازها غيره في البيت . عياض لأنه ليس من مكارم الأخلاق . اللخمي من بنى مسجدا ليكريه جاز . قلت اقتصاره على هذا دون قولها لا يجوز غير صواب ، وإن وافق مفهوم نقل الصقلي عن سحنون إنما لم يجز كراء المسجد لأنه حبس لا يباع ولا يكرى ، والبيت ليس مثله كراؤه جائز . وفي التنبيهات قوله في الرجل يبني مسجدا ليكريه ممن يصلي فيه وكراهيته له في رواية ابن القاسم ، وكذا الذي أجر بيته من قوم ليصلوا فيه قال لا يعجبني ، وهو كمن أكرى المسجد ، وقول غيره في البيت لا بأس بإيجاره لمن يصلي فيه وإجازته كراء الدار على أن تتخذ مسجدا بين أن بين هذه المسائل فرقا .

أما الذي بنى مسجدا فأكراه فلو أباحه للمسلمين لكان حبسا لا حكم له ولا لأحد فيه ، وإن لم يبحه وبناه ليكريه فهذا ليس من مكارم الأخلاق ، وهذا معنى قوله والله أعلم . في كراء المسجد لا يصلح ، وفي كراء البيت لا يعجبني ، وأنه يجوز إن فعله كإجارة المصحف ، لكنه ليس من مكارم الأخلاق . أبو الحسن انظر قوله لا يصلح هل هو على الكراهة أو على المنع ، فعلى ما نقل ابن يونس عن سحنون هو على المنع لقوله لم يجز في المسجد لأنه حبس لا يباع ولا يكرى ، وعلى ما تقدم لعياض هو على الكراهة لقوله ليس من مكارم الأخلاق ا هـ . ابن ناجي قوله لا يصلح على التحريم لقوله فيها وإجارتهما لذلك غير جائزة . الحط وعلى كل حال فأكثر عبارات أهل المذهب عدم الجواز لا الكراهة التي عبر بها المصنف . أبو الحسن أثر قول التهذيب أجاز ذلك غيره في البيت . الشيخ وأجاز هو وغيره أن [ ص: 491 ] يكري الأرض ممن يتخذها مسجدا عشر سنين فالمسجد في طرف والأرض لتتخذ مسجدا في طرف والبيت واسطة بينهما . ووفق بين قول القاسم وقول غيره في البيت بأن غيره يتكلم بعد الوقوع . وابن القاسم قبله ، وبأن قول ابن القاسم في إكرائه في أوقات الصلاة خاصة ويرجع إليه في غيرها وقول غيره في إكرائه منهم لينتفعوا به مدة كرائه للصلاة وغيرها فيما شاءوا أو مما هو من جنس الصلاة ، والله أعلم .

( و ) تكره ( سكنى ) الرجل ( فوقه ) أي المسجد بأهله ، قاله الشارح . وقال البساطي مطلقا بأهله أو وحده .

( تنكيت ) سيأتي في الإحياء منع سكنى فوقه . ومفهوم فوقه جوازها تحته وهو كذلك نص عليه فيها ، وسيأتي في الإحياء جواز السكنى فيه لرجل تجرد للعبادة قاله تت . طفي تبع المصنف في تعبيره بالكراهية هنا لفظ المدونة ، وفي تعبيره بالمنع في الإحياء . ابن شاس وابن الحاجب وعارضه في توضيحه بنصها . وأجاب بحمله على المنع فيقال كذا في كلاميه هنا . فيها كره الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن يبني الرجل مسجدا ثم يبني فوقه بيتا يسكنه بأهله ، أراد لأنها إذا كانت معه يطؤها على ظهر المسجد وذلك مكروه . الحط هذا موافق لظاهر ما في جعلها وإجارتها ، ولظاهر كلام ابن يونس ، ومخالف لظاهر ما يأتي للمصنف في الإحياء ، ولظاهر كلام ابن شاس هناك والقرافي وابن الحاجب ، ففي التهذيب كره مالك السكنى بالأهل فوق ظهر المسجد . ابن يونس كره مالك أن يبني الرجل مسجدا ثم يبني فوقه بيتا يسكنه بأهله ، لأنها إذا كانت معه يطؤها على ظهر المسجد وذلك مكروه . وذكر مالك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان يبيت على ظهر المسجد في الصيف بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وكان لا يقرب فيه امرأة . ابن الحاجب يجوز للرجل جعل علو مسكنه مسجدا ولا يجوز جعل سفله مسجدا ، ويمكن العلو لأن له حرمة المسجد ونحوه في الذخيرة والجواهر [ ص: 492 ] في التوضيح ، ونحوه في المدونة والواضحة . وفي جعل المدونة كره مالك السكنى فوقه .

فإن قلت قد صرح بالكراهة هنا خلاف ما في كتاب الصلاة والواضحة . ففي مختصرها أجاز مالك لمن له سفل وعلو أن يجعل العلو مسجدا ويسكن السفل ، ولم يجز له أن يجعل السفل مسجدا ويسكن العلو ، وفرق بينهما أنه إذا جعل السفل مسجدا صار لما فوقه حرمة المسجد ، ثم قال الحط وتحقيق هذه المسألة أن المسجد إذا بني لله تعالى وحيز عن بانيه فلا ينبغي أن يختلف في أنه لا يجوز البناء فوقه ، فقد قال القرافي حكم الأهوية تابع لحكم الأبنية ، فهواء الوقف وقف ، وهواء الطلق طلق ، وهواء الموات موات ، وهواء الملك ملك ، وهواء المسجد له حكم المسجد لا يقر فيه الجنب . ومقتضى هذه القاعدة أن يمنع هواء المسجد والأوقات إلى عنان السماء لمن أراد غرس خشب حولها ، ويبنى على رءوس الخشب سقفا عليه بنيان ، ولم يخرج عن هذه القاعدة إلا فرع واحد ، وهو إخراج الرواشن والأجنحة عن الحيطان ، ثم أخذ يبين وجه خروجه فانظره ونحوه في الذخيرة وقواعد المقري . وفي تبصرة اللخمي من بنى لله مسجدا وحيز عنه وأحب أن يبني فوقه فلا يكون له ذلك .

وأما إذا كانت له دار لها علو وسفل وأراد أن يحبس السفل مسجدا ويبقى العلو على ملكه ، فظاهر ما تقدم للواضحة وابن الحاجب وتابعيه وما يأتي للمصنف في الإحياء أنه لا يجوز ، ولكن صرح اللخمي بجوازه ، فقال إثر ما تقدم عنه وإن قال أنا أبنيه لله تعالى وأبني فوقه مسكنا ، وعلى هذا أبني جاز ، وكذا لو كانت دار لها علو وسفل فأراد أن يحبس السفل مسجدا ويبقى العلو على ملكه جاز ا هـ . وينبغي أن يوفق بين هذه النقول ، ويجعل معنى قوله في المدونة لا يعجبني أو لا ينبغي لا يجوز . ويحمل هو وما في الواضحةوابن شاس والقرافي وابن الحاجب والآتي للمصنف في الإحياء على الشق الأول الذي تقدم أنه لا ينبغي أن يختلف في منعه ، ويحمل ما في جعلها وكلام اللخمي الأخير وما للمصنف هنا على الشق الثاني وإن كان لفظ اللخمي [ ص: 493 ] الجواز لأنه لا ينافي الكراهة ، ويساعد هذا التوفيق كلام ابن ناجي في شرح المدونة ، ونصه على قول التهذيب ولا يبني إلخ ، قال في الأم لا يعجبني ذلك لأنه يصير مسكنا يجامع فيه ، وذلك كالنص على التحريم ، ولم أعلم فيه خلافا . وذكر أبو عمران المظاهر المعلومة التي تدل على الخلاف ، هل ظاهر المسجد كباطنه أم لا ؟ وذلك يوهم جواز البناء عليه على قول . وليس كذلك لما ذكره في الأم ، مع أن اللفظ يقتضي سبق المسجد فهو تغيير للحبس ، بل ظاهرها أن من عنده علو وسفل فحبس العلو مسجدا فإنه جائز ونص عليه اللخمي ، وعلى قولها المتقدم وكره يريد يكون تحبيس المسجد متأخرا عنه ا هـ .




الخدمات العلمية