الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المثال الثاني : من أمثلة ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات : الرضا بالمجهول والإبراء من المجهول لا يصحان ، إذ لا يتصور توجه الرضا والإبراء مع الجهالة بالرضا والمبرأ منه ، كما لا يتصور توجه الإرادة [ ص: 177 ] إلا إلى معلوم أو مظنون : فمن أبرأ مما لا يعلم جنسه أو قدره برئ المبرأ من القدر المعلوم منه ولا يبرأ من المجهول على الأصح ، ومن برأه من المجهول كان هذا مستثنى من قاعدة الرضا ، ولأجل قاعدة اعتبار نهي الشرع عن بيع الغرر إلى ما يشق الاحتراز منه مشقة عظيمة وإلى ما لا يشق الاحتراز منه إلا مشقة خفيفة وإلى ما بين الرتبتين من المشاق عفا الشرع عن بيع ما اشتدت مشقته : كالبندق والفستق والبطيخ والرمان والبيض وأساس الدار المدفون في الأرض وباطن الصبر من الطعام ، وباطن ما في الأواني من المائعات ، واجتزأ فيه بالرضا فيما علمه المكلف من الأوصاف ولم يشترط الرضا فيما وراء ذلك لما فيه من المشقة .

وأما ما خفت مشقته : كبيع عبد من عبدين ، وثوب من ثوبين ، وكبيع الثمار قبل بدو صلاحها فهذا لا يصح العقد معه إذ لا يعسر اجتنابه .

وأما ما يقع بين الرتبتين : كبيع الغائب والجوز واللوز في قشريهما والمسك في فأرته والحنطة في سنبلها واللبن في ضرعه فهذا مختلف فيه ، فكلما خفت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاضطراب الرضا فيه ، وكلما عظمت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاطراد الرضا فيه وكلما عظمت المشقة في احتماله كان أولى بتحمله .

والغرر تارة يكون في الصفات : كبيع الغائب المستقصى الأوصاف فإن الغرر باق فيه لأن كل صفة ذكرها مرددة بين الرتبة العليا والرتبة الدنيا والرتب المتوسطات بين ذلك ، وتتفاوت القيم بتفاوت هذه الصفات ، وتارة يكون الغرر في تعيين المبيع كبيع عبد من عبدين فهذا غرر لا حاجة إلى تحمله ، ويستثنى منه بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان فإنه على غرر من تعين الصاع مشبه ما لو أشار إلى صاعين متفرقين فقال بعتك أحد هذين الصاعين ، وإلا أن في بيع صاع من صاعين غرر لا تمس الحاجة إليه إذ لا يمكنه [ ص: 178 ] إيقاع المبيع على عين أحد الصاعين ، ولا يمكن إيقاع البيع على صاع معين من الصبرة ، ولو شرط فصل الصاع من الصبرة ، لو وقع العقد عليه معينا لأدى إلى مشقة ظاهرة في فصله من الصبرة ، وقد لا ينفع البيع بعد فصله أو يتفق ثم يفسخ البيع في مجلس العقد فيؤدي إلى مشقة في الفصل وإلى مشقة في الرد إلى الصبرة ، فإن قيل لو باع صبرة مجهولة الصيعان واستثنى منها صاعا فهل يصح هذا البيع ؟ قلنا لا يصح لأن المبيع غير مقدر بالكيل ولا بتخمين العيان ، فإن العيان لا يخمن المقادير إلا بعد الانفصال ، فلما تعذر التقدير الحقيقي والتخميني في هذه الصفقة حكم ببطلانها ، لأن الجهل بتقديرها وتخمينها غرر لا تمس الحاجة إليه ، وربما وقع الغرر في حصول المقصود عليه مع تحقق وجوده كالفرس العاثر والعبد الآبق والجمل الشارد فهذا غرر عظيم في المقصود وأوصافه .

ولا يصح بيع الجمل لأنه مجهول المالية إذ لا ثقة بحياته ولا بشيء من صفاته ولا ببقائه وسلامته ، ولأن الجمل يتزايد من ملك البائع تزايدا لا ضبط له ، فيشبه ما لو باع عبدا وشرط نفقته على البائع في مدة مجهولة ، وربما وقع الغرر في سلامة المبيع كبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وله علتان : إحداهما أنه لا ثقة بسلامته لكثرة الحوائج ، والثانية اغتذاؤه من ملك البائع بما يمتصه ويجتذبه من شجراته إلى أن يبدو صلاحه .

فإن قيل فلم جاز بيعه بعد بدو صلاحه مع أنه يمتد بما يمصه من ملك البائع إلى أوان جذاذه ؟ قلنا : هذا نزر يسير بالنسبة إلى ما قبل بدو الصلاح مع مسيس الحاجة إلى أكله وبيعه بعد بدو صلاحه ، ولو لم يجز ذلك لتعذر على الناس أكل الثمار الرطبة ، وذلك ضرر عام لم ترد الشريعة بمثله ، وقد يكون الغرر في مقدار المبيع : كما لو باع صبرة على أرض غير مستوية فقد [ ص: 179 ] نزله بعضهم على بيع الغائب وجعل الجهل بالمقدار كالجهل بالوصف ، ومنهم من أبطل العقد ههنا لعظم الغرر فإن الجهل بالوصف والموصوف أعظم من الجهل بالوصف على حياله .

التالي السابق


الخدمات العلمية