الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                      كراهية البول في المستحم

                                                                                                      36 أخبرنا علي بن حجر قال أنبأنا ابن المبارك عن معمر عن الأشعث بن عبد الملك عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه

                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                      36 ( عن الأشعث ) هو ابن عبد الله بن جابر الحداني ويقال له الأزدي والأعمى ( عن الحسن ) قال الشيخ ولي الدين العراقي : لا يعتبر بما وقع في أحكام عبد الحق من أن أشعث لم يسمع من الحسن فإنه وهم ( عن عبد الله بن مغفل ) بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء وتشديدها ، قال الشيخ ولي الدين : قد صرح أحمد بن حنبل - رحمه الله - بسماع الحسن من عبد الله بن مغفل ( لا يبولن أحدكم في مستحمه ) بفتح الحاء زاد أبو داود ثم يتوضأ فيه ( فإن عامة الوسواس ) بفتح الواو ( منه ) قال في الصحاح : المستحم أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم ، [ ص: 35 ] وهو الماء الحار ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام ، وذكر ثعلب أن الحميم يطلق أيضا على الماء البارد من الأضداد ، وعامة الشيء بمعنى جميعه وبمعنى معظمه ، والوسواس : حديث النفس والأفكار ، والمصدر بالكسر قال الشيخ ولي الدين : علل النبي صلى الله عليه وسلم هذا النهي بأن هذا الفعل يورث الوسواس ، معناه أن المغتسل يتوهم أنه أصابه شيء من قطره ورشاشه فيحصل له وسواس ، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : إنما يكره البول في المغتسل مخافة اللمم ، وذكر صاحب الصحاح وغيره أن اللمم طرف من الجنون قال : ويقال أيضا : أصابت فلانا لمة من الجنة ، وهو المس والشيء القليل ، وهذا يقتضي أن العلة في النهي عن البول في المغتسل خشية أن يصيبه شيء من الجن ، وهو معنى مناسب ؛ لأن المغتسل محل حضور الشياطين لما فيه من كشف العورة ، فهو في معنى البول في الجحر ، لكن المعنى الذي علل به النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع قال : ويمكن جعله موافقا لقول أنس بأن يكون المراد بالوسواس في الحديث الشيطان ، وفيه حذف تقديره : فإن عامة فعل الوسواس أي الشيطان منه ، لكنه خلاف ما فهمه العلماء من الحديث ، ولا مانع من التعليل بهما فكل منهما علة مستقلة انتهى . قلت : بل هنا علة واحدة ، ولا منافاة ، فإن اللمم الذي ذكره أنس هو الوسواس بعينه ، وذلك طرف من الجنون ، فإن الذي يسمى في لغة العرب الوسواس هو الذي في لغة اليونان الماليخوليا ، وهي عبارة عن فساد الفكر ، وقد كثر في أشعار العرب والأحاديث والآثار إطلاق الوسواس مرادا به ذلك ، منها : حديث أحمد عن عثمان - رضي الله عنه - قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم حزن أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس ، وقيل : لولا مخافة الوسواس لسكنت في أرض [ ص: 36 ] ليس بها ناس ، فالذي قاله أنس هو عين الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال الشيخ ولي الدين : حمل جماعة من العلماء هذا الحديث على ما إذا كان المغتسل لينا وليس فيه منفذ بحيث إذا نزل فيه البول شربته الأرض واستقر فيها ، فإن كان صلبا ببلاط ونحوه بحيث يجري عليه البول ولا يستقر ، أو كان فيه منفذ كالبالوعة ونحوها فلا نهي . روى ابن أبي شيبة عن عطاء قال : إذا كان يسيل فلا بأس ، وقال ابن المبارك فيما نقله عنه الترمذي : قد وسع في البول في المغتسل إذا جرى فيه الماء ، وقال ابن ماجه في سننه : سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول : إنما هذا في الحفيرة ، فأما اليوم فلمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير ، فإذا بال فأرسل عليه الماء فلا بأس به ، وقال الخطابي : إنما ينهى عن ذلك إذا لم يكن المكان جددا مستويا لا تراب عليه ، وصلبا أو مبلطا ، أو لم يكن له مسلك ينفذ فيه البول ويسيل منه الماء ، فيتوهم المغتسل أنه أصابه شيء من قطره ورشاشه فيورثه الوسواس ، وقال النووي في شرحه : إنما نهى عن الاغتسال فيه إذا كان صلبا يخاف إصابة رشاشه ، فإن كان لا يخاف ذلك بأن يكون له منفذ أو غير ذلك فلا كراهة ، قال الشيخ ولي الدين : وهو عكس ما ذكره الجماعة ، فإنهم حملوا النهي على الأرض اللينة ، وحمله هو على الصلبة ، وقد لمح هو معنى آخر ، وهو أنه في الصلبة يخشى عود الرشاش بخلاف الرخوة ، وهم نظروا إلى أنه في الرخوة يستقر موضعه ، وفي الصلبة يجري ولا يستقر ، فإذا صب عليه الماء ذهب أثره بالكلية ، قلت : الذي قاله النووي - رضي الله عنه - سبقه إليه صاحب النهاية فإنه قال : وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن له مسلك يذهب فيه البول ، أو كان صلبا فيتوهم المغتسل أنه أصابه منه شيء فيحصل منه الوسواس ، ثم قال الشيخ ولي الدين : إذا جعلنا الاغتسال منهيا عنه بعد البول فيه ، فيحتمل أن سبب الوسواس البول فيه على انفراده ، ويحتمل أن سببه الاغتسال بعد البول [ ص: 37 ] فيه ويكون قوله : فإن عامة الوسواس منه ، أي من مجموع ما تقدم أو من الاغتسال أو الوضوء فيه الذي هو أقرب مذكور ، ويؤيده حديث من توضأ في موضع بوله فأصابه الوسواس فلا يلومن إلا نفسه رواه ابن عدي من حديث ابن عمرو فجعل سبب الوسواس الوضوء في موضع بوله انتهى




                                                                                                      الخدمات العلمية