الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بعض سيرته وأخباره وقضاته وكتابه

لما بويع معاوية بالخلافة استعمل على شرطته قيس بن حمزة الهمداني ، ثم عزله واستعمل زمل بن عمرو العذري ، وقيل السكسكي . وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون الرومي ، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال له المختار ، وقيل أبو المخارق مالك مولى حمير ، وكان أول من اتخذ الحرس ، وكان على حجابه سعد مولاه ، وعلى القضاء

[ ص: 125 ] فضالة بن عبيد الأنصاري ، فمات ، فاستقضى أبا إدريس الخولاني .

وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري ، وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم ، وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد ، ففتح عمرو الكتاب وصير المائة مائتين ، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وطلبها من عمرو وحبسه ، فقضاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير ، فأحدث عنه ذلك معاوية ديوان الخاتم وحزم الكتب ، ولم تكن تحزم .

قال عمر بن الخطاب : يذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية !

قيل : وقدم عمرو بن العاص من مصر على معاوية ومعه من أهل مصر ، فقال لهم عمرو : لا تسلموا على معاوية بالخلافة فإنه أهيب لكم في قلبه وصغروا ما استطعتم .

فلما قدموا قال معاوية لحجابه : كأني بابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم ، فانظروا إذا دخل القوم فتعتعوهم أشد ما يحضركم .

فكان أول من دخل عليه رجل منهم يقال له ابن الخياط فقال : السلام عليك يا رسول الله ! وتتابع القوم على ذلك ، فلما خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة فسلمتم عليه بالنبوة !

قيل : ودخل عبيد الله بن أبي بكرة على معاوية ومعه ولد له فأكثر من الأكل ، فلحظه معاوية ، وفطن عبيد الله وأراد أن يغمز ابنه فلم يرفع رأسه حتى فرغ من الأكل ، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه ، فقال معاوية : ما فعل ابنك التلقامة ؟ قال : اشتكى .

قال : قد علمت أن أكله سيورثه داء .

قال جويرية بن أسماء : قدم أبو موسى الأشعري على معاوية في برنس أسود فقال : السلام عليك يا أمين الله ! قال : وعليك السلام .

فلما خرج قال معاوية : قدم الشيخ لأوليه ، والله لا أوليه !

[ ص: 126 ] وقال عمرو بن العاص لمعاوية : ألست أنصح الناس لك ؟ قال : بذلك نلت ما نلت .

قال جويرية بن أسماء أيضا : كان بسر بن أبي أرطاة عند معاوية فنال من علي وزيد بن عمر بن الخطاب حاضر ، وأمه أم كلثوم بنت علي ، فعلاه بالعصا وشجه ، فقال معاوية لزيد : عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته ! وأقبل على بسر فقال : تشتم عليا وهو جده وابن الفاروق على رءوس الناس ! أترى أن يصبر على ذلك ؟ فأرضاهما جميعا .

وقال معاوية : إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنب أعظم من عفوي ، وجهل أكبر من حلمي ، وعورة لا أواريها بستري ، وإساءة أكثر من إحساني .

وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم : يا ابن أخي إنك قد لهجت بالشعر ، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة ، والهجاء فتعر كريما وتستثير لئيما ، والمدح فإنه طعمة الوقاح ، ولكن افخر بمفاخر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك .

قال عبد الله بن صالح : قيل لمعاوية : أي الناس أحب إليك ؟ قال : أشدهم لي تحبيبا إلى الناس .

وقال معاوية : العقل والحلم والعلم أفضل ما أعطي العباد ، فإذا ذكر ذكر ، وإذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا غضب كظم ، وإذا قدر غفر ، وإذا أساء استغفر ، وإذا وعد أنجز .

قال عبد الله بن عمير : أغلظ لمعاوية رجل فأكثر ، فقيل له : أتحلم عن هذا ؟ فقال : إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا .

وقال محمد بن عامر : لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء ، فدخل عبد الله على معاوية ومعه بديح ومعاوية واضع رجلا على رجل ، فقال عبد الله لبديح : إيها يا

[ ص: 127 ] بديح ! فتغنى ، فحرك معاوية رجله ، فقال عبد الله : مه يا أمير المؤمنين ! فقال معاوية : إن الكريم طروب .

قال ابن عباس : ما رأيت أخلق للملك من معاوية ، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء واد رحب ، ولم يكن كالضيق الحصحص الحصر ، يعني ابن الزبير ، وكان مغضبا .

وقال صفوان بن عمرو : وقف عبد الملك بقبر معاوية فوقف عليه فترحم ، فقال رجل : قبر من هذا ؟ فقال : قبر رجل كان والله فيما علمته ينطق عن علم ، ويسكت عن حلم ، إذا أعطى أغنى ، وإذا حارب أفنى ، ثم عجل له الدهر ما أخره لغيره ممن بعده ، هذا قبر أبي عبد الرحمن معاوية .

ومعاوية أول خليفة بايع لولده في الإسلام ، وأول من وضع البريد ، وأول من سمى الغالية التي تطيب من الطيب غالية ، وأول من عمل المقصورة في المساجد ، وأول من خطب جالسا ، في قول بعضهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية