الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3077 حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه عمر بن إبراهيم شيخ بصري

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله ( حدثنا عمر بن إبراهيم ) العبدي البصري صاحب الهروي ، صدوق ، في حديثه عن قتادة ضعف ، من السادسة ، كذا في التقريب . وقال في تهذيب التهذيب : قال أحمد : وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير يخالفه . وقال ابن عدي : يروي عن قتادة أشياء لا يوافق عليها وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب . انتهى .

                                                                                                          قوله : ( طاف بها إبليس ) أي جاءها ( وكان لا يعيش لها ولد ) من العيش وهو الحياة ، أي لا يحيا لها ولد ولا يبقى ، بل كان يموت ( فقال ) أي إبليس ( سميه عبد الحارث ) قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها : إن ولدت ولدا فسميه باسمي ، فقالت ما اسمك؟ قال الحارث ، ولو سمى لها نفسه لعرفته ، فسمته عبد الحارث ، فكان هذا شركا في التسمية ولم يكن شركا في العبادة . وقد روي هذا بطريق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، كذا في [ ص: 366 ] تفسير فتح البيان و " الدين الخالص " ( وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ) أي من وسوسته وحديثه .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن غريب ) وأخرجه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم وغيرهم .

                                                                                                          قال الحافظ ابن كثير : هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به ، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا ، فالله أعلم . الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعا . الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا . فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه . انتهى .

                                                                                                          قلت : عمر بن إبراهيم المذكور وثقه غير واحد من أئمة الحديث ، لكنه ضعيف في رواية الحديث عن قتادة كما عرفت ، وهذا الحديث رواه عن قتادة ، وفي سماع الحسن من سمرة كلام معروف .

                                                                                                          تنبيه : أورد الترمذي حديث سمرة المذكور هنا في تفسير قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون قال صاحب فتح البيان : قد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم ; لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام ، والأنبياء معصومون عن الشرك ، ثم اضطروا إلى التفصي من هذا الإشكال . فذهب كل إلى مذهب ، واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافا كثيرا حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي وأبو السعود وغيرهما وقال الحسن : هذا في الكفار يدعون الله ، فإذا آتاهما صالحا هودوا أو نصروا . وقال ابن كيسان : هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك .

                                                                                                          قال الحسن : كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم ، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهم آل قصي ، وحسنه الزمخشري وقال : هذا تفسير حسن لا [ ص: 367 ] إشكال فيه . وقيل معناها على حذف المضاف ، أي جعل أولادهما شركاء ، ويدل له ضمير الجمع في قوله الآتي عما يشركون وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال : هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين . وقيل معنى من نفس واحدة : من هيئة واحدة وشكل واحد ، فجعل منها- أي من جنسها- زوجها ، فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى ، وعلى هذا لا يكون لآدم ولا حواء ذكر في الآية ، وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين . وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى ، لا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه : الأول : أن الحديث المرفوع المتقدم ، يعني حديث سمرة المذكور يدفعه وليس في واحد من تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه ، بل هي تفاسير بالآراء المنهي عنها المتوعد عليها . الثاني : أن فيه انخراما لنظم القرآن سياقا وسباقا ، الثالث : الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء ، وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها ، فالقصة ثابتة لا وجه لإنكارها بالرأي المحض .

                                                                                                          والحاصل : أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام ، ولم يشرك آدم قط ، وقوله جعلا له شركاء بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين بل إلى جماعة ، وهو شائع في كلام العرب . وعلى هذا فليس في الآية إشكال ، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعا للكتاب والحديث ، وصونا لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى ، والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة . انتهى مختصرا .

                                                                                                          قلت : لو كان حديث سمرة المذكور صحيحا ثابتا صالحا للاحتجاج لكان كلام صاحب فتح البيان هذا حسنا جيدا ولكنك قد عرفت أنه حديث معلول لا يصلح للاحتجاج ، فلا بد لدفع الإشكال المذكور أن يختار من هذه الأقوال التي ذكروها في تأويل الآية ما هو الأصح والأقوى ، وأصحها عندي هو ما اختاره الرازي وابن جرير وابن كثير .

                                                                                                          قال الرازي في تفسيره المروي عن ابن عباس : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وهي نفس آدم ، وجعل منها زوجها أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى ، فلما تغشاها آدم ، حملت حملا خفيفا فلما أثقلت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل ، قال : ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة ، وما يدريك من أين يخرج ، أمن دبرك فيقتلك ، أو ينشق بطنك؟ فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام ، فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم أتاها ، وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ، ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث؟ وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذلك قوله : [ ص: 368 ] فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما أي لما آتاهما الله ولدا سويا صالحا ، جعلا له شريكا : أي جعل آدم وحواء له شريكا ، والمراد به الحارث ، هذا تمام القصة .

                                                                                                          واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه :

                                                                                                          الأول : أنه تعالى قال : فتعالى الله عما يشركون . وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة .

                                                                                                          الثاني : أنه تعالى قال بعده : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون وهذا يدل أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر .

                                                                                                          الثالث : لو كان المراد إبليس لقال : " أيشركون من لا يخلق شيئا " ولم يقل ما لا يخلق شيئا ; لأن العاقل إنما يذكر بصيغة من لا بصيغة ما .

                                                                                                          الرابع : أن آدم عليه السلام كان من أشد الناس معرفة بإبليس ، وكان عالما بجميع الأسماء كما قال تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحارث ، فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ، ومع علمه بأن اسمه هو الحارث ، كيف سمى ولد نفسه بعبد الحارث ؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى إنه لم يجد سوى هذا الاسم .

                                                                                                          الخامس : أن الواحد لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح ، فجاءه إنسان ودعاه أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره ، وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله وعلم آدم الأسماء كلها وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقعت فيها لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر ، وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها .

                                                                                                          السادس : أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إما أن يقال : إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له ، أو جعله صفة له ، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحارث ومخلوق من قبله ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركا بالله ، لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكا في الخلق والإيجاد والتكوين ، وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل . فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد . ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه .

                                                                                                          [ ص: 369 ] إذا عرفت هذا فنقول : في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد ، التأويل الأول ما ذكره القفال فقال : إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل ، وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول : هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية ، فلما تغشى الزوج الزوجة وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا جعل الزوج والزوجة شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك للطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام ، ثم قال تعالى : فتعالى الله عما يشركون ، أي تنزه الله عن ذلك الشرك ، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد . ثم ذكر باقي التأويلات من شاء الوقوف عليها فليراجع تفسيره .

                                                                                                          وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره : قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن : جعلا له شركاء فيما آتاهما قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم .

                                                                                                          و حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال : قال الحسن عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده يعني جعلا له شركاء فيما آتاهما ، وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا ، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث- يعني حديث سمرة المذكور- عنده محفوظا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما عدل عنه هو ولا غيره لا سيما مع تقواه لله وورعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل : كعب ووهب بن منبه وغيرهما ، إلا إننا برئنا من عهدة المرفوع . انتهى .

                                                                                                          أما أثر ابن عباس الذي ذكره الرازي فهو مروي من طرق متعددة بألفاظ مختلفة ، وهو يحتمل أن يكون مأخوذا من الإسرائيليات ، قال الحافظ ابن كثير بعد ذكره من الطرق المتعددة بالألفاظ المختلفة ما لفظه : وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة . ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ، وكأنه أصله مأخوذ من أهل الكتاب ، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو [ ص: 370 ] الجماهر ، حدثنا سعيد يعني ابن بشير ، عن عقبة ، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها : أتطيعينني ويسلم لك ولدك؟ سميه عبد الحارث . فلم تفعل فولدت فمات ، ثم حملت فقال لها مثل ذلك ، فلم تفعل ، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبهما فأطاعا .

                                                                                                          وهذه الآثار يظهر عليها أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد صح الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم . ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام : فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا ، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، وهو الذي لا يصدق ولا يكذب لقوله " فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " . وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر ، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث . وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال الله : فتعالى الله عما يشركون ثم قال : فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس . انتهى كلام الحافظ ابن كثير .




                                                                                                          الخدمات العلمية