الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) ( أم ) أيضا منقطعة فتقدر بـ ( بل ) . والهمزة قيل : للانتقال من كلام إلى كلام . والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الإنكار . أنكر عليهم أولا البخل ، ثم ثانيا الحسد . فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره ، والحسد تمني زوال ما أعطى الله الإنسان من الخير ، وإيتاؤه له . نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين . ولما كان الحسد شر الخصلتين ترقى إلى ذكره بعد ذكر البخل . والناس هنا : النبي صلى الله عليه وسلم . والفضل : النبوة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل .

وقال ابن عباس والسدي أيضا : والفضل ما أبيح له من النساء . وسبب نزول الآية عندهم أن اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول إنه بعث بالتواضع ، وإنه لا يملأ بطنه طعاما ، ليس همه إلا في النساء ، ونحو هذا ؛ فنزلت . والمعنى : لم تخصونه بالحسد ، ولا تحسدون آل إبراهيم - يعني - : سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما في أمر النساء ؛ وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة ، وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة . فالملك في هذا القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولا بالذكر . وقال قتادة : الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم منها ، والفضل هنا الرسول . والمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي ، وقد أوتي أسلافهم أنبياء وكتبا كالتوراة والزبور ، وحكمة وهي الفهم في الدين مما لم ينص عليه الكتاب ؟ وروي عن ابن عباس أنه قال : نحن الناس يريد قريشا .

( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) أي ملك سليمان ؛ قاله ابن عباس . وقال مجاهد : هو النبوة . وقال همام بن الحارث ، وأبو مسلمة ، وابن زيد : هو التأييد بالملائكة . وقيل الناس هنا الرسول وأبو بكر وعمر . والكتاب : التوراة والإنجيل أو هما والزبور أقوال ، والحكمة : النبوة ، قاله السدي ، ومقاتل ، أو الفقه في الدين ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ، ذكره الماوردي . وقال الزمخشري : أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم . ( فقد آتينا ) إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه . وعن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان . انتهى كلامه . وهو كلام حسن .

( فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ) أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من كفر كقوله : فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ؛ قاله السدي : أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب ، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله : ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا . من آمن به أي بالقرآن ، وهو المأمور بالإيمان به في قوله : بما نزلنا ؛ قاله مجاهد ، ومقاتل والفراء والجمهور [ ص: 274 ] ولذلك ارتفع الطمس ، ولم يقع . أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم أو العرب على ما تقدم . أو فمن اليهود من آمن به ; أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم . أو فمن اليهود من آمن برسول الله ، ومنهم من أنكر نبوته . والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم ؛ أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد حاز أسلافكم من الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحدا .

وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه ؛ فذكر أنهم أيضا مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر . هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم ؟ .

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري : ( ومن صد عنه ) برفع الصاد مبنيا للمفعول . وقرأ أبي ، وأبو الحوراء ، وأبو رجاء والحوفي ، بكسر الصاد مبنيا للمفعول . والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول ؛ فتقول : حب زيد بالضم ، وحب بالكسر . ويجوز الإشمام . والصد ليس مقابلا للإيمان إلا من حيث المعنى ؛ وكان المعنى والله أعلم : فمنهم من آمن به واتبعه ، ومنهم من كذب به وصد عنه .

وكفى بجهنم سعيرا أي احتراقا والتهابا أي لمن صد عنه . و سعيرا تمييز وهو شدة توقد النار . والتقدير : وكفى بسعير جهنم سعيرا ؛ وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة .

إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا لما ذكر قوله : ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته ؛ ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين ، وصار نظير وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم . وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى . وقرأ حميد : نصليهم من صليت . وقرأ سلام ويعقوب : نصليهم بضم الهاء . كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها انتصاب على ( كل ) الظرف لأنه مضاف إلى ( ما ) المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم ؛ وهي جملة فيها معنى الشرط . وهي في موضع الحال ، والعامل فيها نصليهم . والتبديل على معنيين : تبديل في الصفات مع بقاء العين ، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى ؛ يقال : هذا بدل هذا . والظاهر في الآية هذا المعنى . الثاني . وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهرى وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه ؛ ولهذا قال : جلودا غيرها . قال السدي : إن الجلود تخلق من اللحم ؛ فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلدا آخر . وقيل : هي بعينها تعاد بعد إحراقها ؛ كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور ؛ فيكون ذلك عائدا إلى الصفة ، لا إلى الذات . وقال الفضيل : يجعل النضج غير نضيج . وقيل : تبدل كل يوم سبع مرات . وقال الحسن : سبعين . وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها . فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة . أو كما قيل : مائة ألف مرة . وسميت جلودا لملابستها الجلود . وأبعد - أيضا - من ذهب إلى أن هذا استعارة عن الدوام ؛ كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ؛ بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ؛ فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه . وقال ابن عباس : يلبسهم الله جلودا بيضاء كأنها قراطيس . وقال عبد العزيز بن يحيى : يلبس أهل النار جلودا تؤلمهم ولا تؤلم هي .

ليذوقوا العذاب أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود ، هو ليذوقوا ألم العذاب . وأتى بلفظ الذوق المشعر بالإحساس الأول وهو آلم ؛ فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب . وقال الزمخشري : ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع ؛ كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك ، وزادك فيه .

إن الله كان عزيزا حكيما أي عزيزا [ ص: 275 ] لا يغالب ، حكيما يضع الأشياء مواضعها . وقال الزمخشري : عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيم لا يعذب إلا بعدل من يستحقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية