الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  بين ما أراده من هذه الترجمة بهذه الآية على طريق التعليل ، بقوله لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد إن الله يأمر عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة هاهنا ، قال ابن عباس : من طيبات من رزقهم من الأموال التي اكتسبوها ، وقال مجاهد : يعني : التجارة بتيسيره إياها لهم ، وقال علي والسدي : من طيبات ما كسبتم ، يعني : الذهب والفضة ومن الثمار والزرع التي أنبتها الله تعالى من الأرض ، قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ورديئه ، وهو خبيثه ، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيب ، ولهذا قال : ولا تيمموا الخبيث أي : لا تقصدوا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه ، أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتعاموا فيه ، والله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون . وقيل : معناه لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه ، وروى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال : " قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه ، قالوا : وما بوائقه ؟ قال : غشمته وظلمته ، ولا يكسب عبد مالا من حرام ، فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا إذا كان راده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ، وقال ابن جرير : حدثني الحسن بن عمرو العنبري ، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، في قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية ، قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل إلى الحشف ، فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون رواه ابن ماجه أيضا وابن مردويه والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن مغفل في هذه الآية [ ص: 311 ] ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون قال كسب المسلم لا يكون خبيثا ، ولكن لا يتصدق بالحشف والدرهم الزيف ، وما لا خير فيه ، وقال أحمد بإسناده ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب فلم يأكله ، ولم ينه عنه ، قلت : يا رسول الله ، نطعمه المساكين ؟ قال : لا تطعموهم مما لا تأكلون " ، وقال عبيدة : سألت عليا عن قوله أنفقوا من طيبات ما كسبتم قال من الذهب والفضة ، وكذا قاله السدي ، قال عبيدة : وسأله عن قوله : ومما أخرجنا لكم من الأرض قال من الحب والثمر ، كل شيء عليه زكاة ، وقال مجاهد : من النخل " ولا تيمموا " قال الطبري : لا تقصدوا وتعمدوا .

                                                                                                                                                                                  وفي قراءة عبد الله - رضي الله تعالى عنه - : " ولا توموا " من أممت ، والمعنى واحد ، وإن اختلفت الألفاظ ، وقال أبو بكر الهذلي ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي - رضي الله تعالى عنه - : أنزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه ، فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة ، أعطاه من الرديء ، فقال الله تعالى : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون قال ابن زيد : الخبيث هنا هو الحرام ، وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك واسمه غزوان ، عن البراء : ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه يقول : لو كان لرجل على رجل دين فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه ، رواه ابن جرير ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه ، قال : وذلك قوله : إلا أن تغمضوا فيه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وزاد قوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قوله : واعلموا أن الله غني حميد أي : وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها ، فهو غني عنها حميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية