الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وكل زوج جاز طلاقه وجرى عليه الحكم من بالغ جرى عليه الظهار حرا كان أو عبدا أو ذميا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال يصح ظهار الذمي كما يصح ظهار الحر المسلم .

                                                                                                                                            وقال مالك : لا يصح ظهار العبد .

                                                                                                                                            [ ص: 413 ] وقال أبو حنيفة : لا يصح ظهار الكافر استدلالا بقوله تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم [ المجادلة : 2 ] وليس الكافر منا فخرج من حكم الظهار، والعبد وإن كان مسلما فهو غير داخل فيما قصد به التميز والتشريف ، ثم قال : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا [ المجادلة : 2 ] فجعله بالظهار قائلا منكرا وزورا، والكافر قائل بالشرك وجحد النبوة وهو أعظم وأغلظ، ثم قال وإن الله لعفو غفور [ المجادلة : 2 ] والكافر لا يتوجه مثل هذا الخطاب إليه، ثم أمر المظاهر بالكفارة وهي عتق رقبة وهي لا تصح من العبد لأنه عندكم لا يملك ، ولا من الكافر لأن الرقبة التي يعتقها يجب أن تكون مؤمنة والكافر لا يملك عبدا مسلما ثم قال فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ المجادلة : 4 ] والصوم لا يصح من الكافر فدلت هاتان الآيتان على خروج العبد منها عند مالك وعلى خروج الكافر منها عند أبي حنيفة ثم بنى أبو حنيفة ذلك على أن التكفير لا يصح منه فلا يصح الظهار . واستدل على أن التكفير لا يصح منه مع ما تقدم ذكره من الآية بأنها عبادة تفتقر إلى النية فلم تصح من الكافر كالزكاة ، ولأن التكفير تغطية للذنب وإسقاط للمأثم وهذا لا يصح من الكافر .

                                                                                                                                            واستدل على هذا : بأن من لم يصح منه التكفير لم يصح منه الظهار كالمجنون .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا [ المجادلة : 3 ] ومن الآية دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : عمومها المنطلق على المسلم والكافر .

                                                                                                                                            والثاني : قوله تعالى : ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله [ المجادلة : 4 ] وتوجه ذلك إلى الكافر في ابتداء الإيمان أخص من توجهه إلى المسلم في استدامة الإيمان، فكان أسوأ الأحوال أن يكونا فيها سواء ، فإن قالوا : هذه الآية وإن جاز أن تكون عامة في المسلم والكافر فالآية التي قبلها في المسلم دون الكافر ومن مذهبكم حمل المطلق على المقيد فلزمكم أن تحملوا عموم الثانية على خصوص الأولى . قيل : إنما يحمل المطلق على المقيد إن سلمنا أن الأولى خاصة إذا كان الحكم فيهما واحدا فأما في الحكمين المختلفين فلا يحمل المطلق على المقيد والحكم في الاثنين مختلف لأن الآية الأولى في تحريم الظهار والآية الثانية في حكم الظهار فإن قالوا : فالثانية عطف على الأولى وحكم العطف حكم المعطوف عليه قلنا : هذا فيما لا يستقل بنفسه، فإن استقل لم يشارك المعطوف عليه في حكمه . ألا تراه لو قال : اضرب زيدا وعمرا كان عمرا معطوفا على زيد في الضرب لأن ذكر زيد غير مستقل ، ولو قال : اضرب زيدا وأكرم عمرا لم يصر عطفا عليه في الحكم لاستقلاله وإن كان عطفا عليه في الذكر . ولأن الظهار طلاق نقل إلى غيره ؛ فصح من المسلم والكافر كالإيلاء ، ولأن من صح [ ص: 414 ] طلاقه صح ظهاره كالمسلم : ولأن ما صح من المسلم في زوجته صح من الكافر كالطلاق ، ولأن الأحكام المختصة بالنكاح خمسة : الطلاق والظهار والإيلاء والعدة والنسب ، فلما تساوى المسلم والكافر في سائرها وجب أن يساويه في الظهار . . فأما الجواب عن قوله تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما قدمناه من أنها واردة في التحريم وهو يخص المسلم، والتي بعدها في الحكم وهو يعم المسلم والكافر .

                                                                                                                                            والثاني : أنها وإن خصت المسلم نطقا فقد عمت المسلم والكافر حكما إما تنبيها وإما قياسا كما قال ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الأحزاب : 49 ] فكان الكافر كذلك . وأما قوله وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور . فهذا القول بالكافر أخص وليس إذا قال بالكفر منكرا وزورا لم يقل بالظهار منكرا وزورا . فإن قيل : فما يقوله بالكفر من المنكر والزور أعظم ثم لا يلزم به الكفارة فبأن لا يلزمه بالظهار أولى قيل : إذا لم تجب الكفارة بأغلظ المنكرين لم تجب بأخفهما ، ألا ترى أن ردة المسلم إذا تاب منها أعظم من ظهاره ولا يدل سقوط الكفارة عنه في ردته على سقوطها عنه في ظهاره . وأما قوله وإن الله لعفو غفور ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : عفو عن الكفارة بقبولها إذا أديت .

                                                                                                                                            والثاني : عفو إن أسلم، وأما قولكم : إنه لا يصح منه الكفارة لأنها عتق مسلم عندكم وهو لا يملك مسلما فهم يقولون إنه يجزئ عتق كافر وهو يملك كافرا ، على أنه قد يصح منه عتق مسلم إذا ورث عبدا مسلما وإما بأن يكون العبد كافرا في يده فيسلم في ملكه ، وإما بأن يقول للمسلم أعتق عني عبدك هذا المسلم فيجزئ ، وقولهم : لا يصح منه الصوم فيها ؛ لأنه قربة وليس إذا لم يصح منه الصوم في الكفارة لم تجب عليه الكفارة كالمرتد والكفارة في القتل . وقياسهم على الصلاة والصيام : فالمعنى في الأصل أنها عبادة محضة وفي الكفارة مع التعبد حق لآدمي .

                                                                                                                                            وقولهم : " إنها تغطية للذنب وتكفير للمأثم " فهي كذلك في حق المسلم وعقوبة في حق الكافر ألا ترى إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحدود كفارات لأهلها . فكانت كذلك في حق المسلم وعقوبة في حق الكافر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن بناء الظهار على التكفير فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : انتقاضه بالمرتد يصح منه الظهار ولا يصح منه التكفير . إذا لم يعد فيه فلم يعتبر به لجواز خلوه عنه على أن التكفير يصح منه بغير الصوم وأما قياسهم [ ص: 415 ] على المجنون ، فالمعنى فيه أنه لا يصح طلاقه فكذلك لم يصح ظهاره والكافر يصح طلاقه فصح ظهاره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية