الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
ثم فيها مباحث

الأول

وهي " استفعال " من العارية ، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة في التخييل والتشبيه مع الإيجاز ؛ نحو : لقيت أسدا ، وتعني به الشجاع .

وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها ، وحكمة ذلك [ ص: 483 ] إظهار الخفي ، وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي ، أو بحصول المبالغة أو للمجموع .

فمثال إظهار الخفي قوله تعالى : وإنه في أم الكتاب ( الزخرف : 4 ) فإن حقيقته أنه في أصل الكتاب ؛ فاستعير لفظ " الأم " للأصل ؛ لأن الأولاد تنشأ من الأم ، كما تنشأ الفروع من الأصول . وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا ، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان ؛ وذلك أبلغ في البيان .

ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليا ، قوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ( الإسراء : 24 ) لأن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة ؛ فاستعير للولد أولا " جانب " ، ثم للجانب " جناح " وتقدير الاستعارة القريبة : واخفض لهما جانب الذل ، أي : اخفض جانبك ذلا .

وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئيا ؛ لأجل حسن البيان ، ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقي الولد من الذل لهما والاستكانة مركبا ؛ احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى ؛ فاستعير الجناح ؛ لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجناح ؛ لأن من ميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل صدق عليه أنه خفض جانبه ، والمراد خفض يلصق الجنب بالإبط ، ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر ، وأما قول أبي تمام :


لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي

فيقال : إنه أرسل إليه قارورة ، وقال : ابعث إلي فيها شيئا من ماء الملام . فأرسل [ ص: 484 ] أبو تمام : أن ابعث لي ريشة من جناح الذل أبعث إليك من ماء الملام .

وهذا لا يصح له تعلق به ، والفرق بين التشبيهين ظاهر ؛ لأنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام ، فإن الجناح للذل مناسب ، فإن الطائر إذا وهى وتعب بسط جناحه ، وألقى نفسه إلى الأرض ، وللإنسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه ، وإذا خضع واستكان يطأطئ من رأسه ، وخفض من بين يديه ، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل ، وصار شبها مناسبا ، وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه ، فلذلك استهجن منه . على أنه قد يقال : إن الاستعارة التخييلية فيه تابعة للاستعارة بالكناية ؛ فإن تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته ، ثم استعار الملام له كمائه ، ثم يخرج منه شيء يشبه بالماء ، فالاستعارة في اسم الماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية