الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          3102 حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعد كما قال الله عز وجل ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها وآذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل فذكر الحديث بطوله قال فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سر بالأمر استنار فجئت فجلست بين يديه فقال أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك فقلت يا نبي الله أمن عند الله أم من عندك قال بل من عند الله ثم تلا هؤلاء الآيات لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ إن الله هو التواب الرحيم قال وفينا أنزلت أيضا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال قلت يا نبي الله إن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال فما أنعم الله علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي ولا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وإني لأرجو أن لا يكون الله أبلى أحدا في الصدق مثل الذي أبلاني ما تعمدت لكذبة بعد وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال وقد روي عن الزهري هذا الحديث بخلاف هذا الإسناد وقد قيل عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله عن كعب وقد قيل غير هذا وروى يونس بن يزيد هذا الحديث عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن أباه حدثه عن كعب بن مالك [ ص: 402 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 402 ] قوله : ( عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ) الأنصاري كنيته أبو الخطاب المدني ، ثقة من كبار التابعين ، و يقال ولد في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

                                                                                                          قوله : ( حتى كانت غزوة تبوك ) مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق ، ويقال بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة ، والمشهور فيها عدم الصرف للتأنيث والعلمية ، ومن صرفها أراد الموضع ، وكانت هذه الغزوة في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف ( مغيثين لعيرهم ) أي معينين لعيرهم ، من الإغاثة بمعنى الإعانة . وفي بعض النسخ مغوثين .

                                                                                                          قال في النهاية : جاء به على الأصل ولم يعله ، كاستحوذ واستنوق ، ولو روي مغوثين بالتشديد من غوث بمعنى أغاث لكان وجها ، والعير بكسر العين : الإبل بأحمالها ، وقيل هي قافلة الحمير ، فكثرت حتى سميت بها كل قافلة ( كما قال الله تعالى ) يعني قوله تعالى إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ( وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة ) أي بدل بيعتي ليلة العقبة لأن هذه البيعة كانت أول الإسلام ومنشأه ، وليلة العقبة ليلة بايع ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها الأنصار على الإسلام والنصر ، وذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم ليؤمنوا به ويؤووه ، فلقي رهطا من الخزرج فأجابوه فجاء في العام المقبل اثنا عشر إلى الموسم فبايعوه عند العقبة ، وهي بيعة العقبة الأولى ، فخرج في العام الآخر سبعون إلى الحج فاجتمعوا عند العقبة وأخرجوا من كل فرقة نقيبا فبايعوه وهي البيعة الثانية ( حيث تواثقنا على الإسلام ) بمثلثة وقاف أي أخذ بعضنا على بعض الميثاق لما تبايعنا على الإسلام والجهاد . والميثاق العهد وأصله : قيد أو حبل يشد به الأسير أو الدابة ( بعد ) بضم الدال ، أي بعد غزوة بدر ( غزاها ) الضمير المرفوع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( وآذن ) من الإيذان : أي أعلم ، ( فذكر الحديث بطوله ) . روى البخاري هذا [ ص: 403 ] الحديث بطوله في باب غزوة تبوك ( أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك ) استشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه ، فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه وهو خير أيامه ، فقيل هو مستثنى تقديرا وإن لم ينطق به لعدم خفائه ، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه ، فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير جميع أيامه ، وإن كان يوم إسلامه خيرها ، فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها لقد تاب الله : أي أدام توبته على النبي فيما وقع منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإذن في التخلف أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين . وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أو له ; لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار ، وقد تكون التوبة منه على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى والأليق كما في قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ، ويجوز أن يكون ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها . قال أهل المعاني : هو مفتاح كلام للتبرك وفيه تشريف لهم في ضم توبتهم إلى توبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله : فأن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له و كذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار فيما قد اقترفوه من الذنوب ومن هذا القبيل ما صح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله : إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

                                                                                                          والإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره ، إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل ، ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوه أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يتخلفوا عنه في ساعة العسرة هي غزوة تبوك ، فإنهم كانوا فيها في عسرة شديدة وتسمى غزوة العسرة ، والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة ; لأنه كان عليهم عسرة في الزاد والظهر والماء .

                                                                                                          وأخرج ابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس : أنه قال لعمر بن الخطاب : حدثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال : خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره [ ص: 404 ] فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر ، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم في كاد ضمير الشأن بيان لتناهي الشدة وبلوغها النهاية ومعنى يزيغ : يتلف بالجهد والمشقة والشدة ، وقيل : معناه : يميل عن الحق ويترك المناصرة والممانعة ، وقيل : معناه يهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة . وفي قراءة ابن مسعود " من بعد ما زاغت " وهم المتخلفون على هذه القراءة ، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله ثم تاب عليهم تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها ، هذا إن كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار ، وذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله إنه بهم رءوف رحيم تأكيدا لذلك ، أي رفيق بعباده ; لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات ، وبين الرءوف والرحيم فرق لطيف ، وإن تقاربا في المعنى .

                                                                                                          قال الخطابي : قد تكون الرحمة مع الكراهة ولا تكاد الرأفة تكون معها ، وقيل : الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع . هذه الآية هي الأولى من الآيات التي تلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والآية الثانية مع تفسيرها هكذا : وعلى الثلاثة الذين خلفوا أي أخروا ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، وهؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع أو - ابن ربيعة العامري ، وهلال بن أمية الواقفي ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توبتهم حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم ، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت كناية عن شدة التحير وعدم الاطمئنان ، يعني أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض برحبها لإعراض الناس عنهم ، وعدم مكالمتهم من كل أحد : لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى الناس أن يكالموهم ، وضاقت عليهم أنفسهم أي أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن ، وظنوا أي علموا وأيقنوا أن لا ملجأ من الله أي من عذابه أو من سخطه ، إلا إليه أي بالتوبة والاستغفار ، ثم تاب أي رجع عليهم بالقبول والرحمة ، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا ، أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ، ليتوبوا عنها ويرجعوا فيها إلى الله ويندموا على ما وقع منهم ، ويحصلوا التوبة وينشئوها فحصل التغاير وصح التعليل ، إن الله هو التواب أي الكثير القبول لتوبة التائبين الرحيم أي الكثير [ ص: 405 ] الرحمة لمن طلبها من عباده . ( قال ) أي كعب بن مالك ( وفينا ) أي في الثلاثة الذين خلفوا ( أنزلت أيضا ) : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين يعني مع من صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه في الغزوات ، ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو ( إن من توبتي ) أي من شكر توبتي ( أن لا أحدث إلا صدقا ) زاد البخاري : ما بقيت ( وأن أنخلع من مالي كله ) أي أخرج من جميع مالي ( صدقة ) هو مصدر في موضع الحال أي متصدقا ، أو ضمن الخلع معنى أتصدق وهو مصدر أيضا ( أبلى أحدا ) أي أنعم على أحد . وحديث كعب بن مالك هذا أخرجه البخاري في عشرة مواضع مطولا ومختصرا في الوصايا وفي الجهاد وفي صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي وفود الأنصار ، وفي موضعين من المغازي ، وفي موضعين من التفسير ، وفي الاستئذان ، وفي الأحكام . وأخرجه مسلم في التوبة ، وأخرجه أبو داود والنسائي في الطلاق .




                                                                                                          الخدمات العلمية