الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وإن قال أنت علي كظهر امرأة محرمة من نسب أو رضاع قامت في ذلك مقام الأم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ( قال المزني ) رحمه الله تعالى وحفظي وغيري عنه لا يكون متظاهرا بمن كانت حلالا في حال ثم حرمت بسبب، كما حرمت نساء الآباء وحلائل الأبناء بسبب، وهو لا يجعل هذا ظهارا ولا في قوله كظهر أبي " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما الظهار المعهود عرفا وشرعا فهو ما ذكرناه من التشبيه بالأم، فيقول لزوجته : أنت علي كظهر أمي لقول الله عز وجل الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا [ المجادلة : 2 ] وكذلك إذا شبه زوجته بجداته كأم الأم أو أم الأب كان مظاهرا ، لكن اختلف أصحابنا هل يكون مظاهرا بالنص أو بالقياس على النص على وجهين أحدهما : بالنص لأن الجدة تسمى أما .

                                                                                                                                            والثاني : بالقياس لما فيها من الولادة كالأم . فأما إذا شبه زوجته بمن تحرم عليه من غير أمهاته فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : من تحرم عليه بنسب .

                                                                                                                                            والثاني : من تحرم عليه بسبب .

                                                                                                                                            فأما المحرمات بالأنساب كالبنت والأخت والخالة والعمة وهذا تحريم أزلي اقترن بوجود العين فإذا شبه زوجته بأحد هؤلاء فقال : أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو خالتي أو عمتي فهل يكون مظاهرا أم لا على قولين :

                                                                                                                                            [ ص: 432 ] أحدهما : وهو قوله في القديم لا يكون مظاهرا، وبه قال أبو حنيفة ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الأم أغلظ حرمة فلم يجز أن يساويها غيرها في الحكم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو أراد بالنص التنبيه لنص على الأدنى لينبه على الأعلى وقد نص على الأعلى وهو الأم فلم يكن فيه تنبيه على الأدنى .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قوله في الجديد أنه يكون مظاهرا لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه قد صار بهذا التحريم قائلا منكرا من القول وزورا كالأم فوجب أن يكون مظاهرا كالتشبيه بالأم .

                                                                                                                                            والثاني : أن معنى التحريم في الأم موجود في غيرها من سائر المحرمات بالأنساب وهو التحريم الأزلي الذي يكفر باستباحته فصار مظاهرا به كالأم .

                                                                                                                                            وأما المحرمات بالأسباب فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : سبب لا يتأبد تحريمه كأخت امرأته وخالتها وعمتها يحرمن ما كان مقيما على نكاح امرأته فإذا فارقها حللن له فلا يكون بتشبيه زوجته بواحدة منهن مظاهرا فإذا قال لزوجته : أنت علي كظهر أخت زوجتي ، أو كظهر خالتها ، أو كظهر عمتها لم يكن مظاهرا ، لا يختلف ؛ لأن ظهر هؤلاء لم يكن حراما عليه قبل نكاح زوجته ولا يحرمن عليه بعد فراقها فلا يتحقق فيهن التحريم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : سبب يتأبد تحريمه وذلك شيئان ؛ الرضاع والمصاهرة وتحريمهما على ضربين : أزلي وطارئ ؛ فأما الطارئ منهما فهو أن يحدث التحريم بهما بعد أن لم يكن . مثاله في الرضاع : أن ترتضع صبية من لبن أمه بعد ولادته فتصير أختا محرمة بعد أن لم تكن محرمة .

                                                                                                                                            ومثاله في المصاهرة : أن يتزوجها أبوه بعد ولادته أو تكون بنت امرأته أو أم زوجته فتصير محرمة بالمصاهرة بعد أن لم تكن محرمة ، فلا يكون مظاهرا إذا شبه زوجته بأحد هؤلاء، وكذلك إذا شبهها بامرأة لاعن منها : لأنه تحريم طرأ بعد أن لم يكن فخرج عن حقيقة التحريم في الانتهاء لخروجه عنه في الابتداء .

                                                                                                                                            وأما الأزلي : فمثاله في الرضاع : أن ترتضع صبية من أمه قبل ولادته فلا يوجد إلا والتحريم موجود . ومثاله في المصاهرة : أن يتزوج أبوه امرأة قبل ولادته ثم يولد من غيرها فلا يوجد إلا وتحريمها عليه موجود فيكون في حكم المحرمات بالأنساب ، فإن شبه زوجته بواحدة فقال : أنت علي كظهرها هل يكون مظاهرا أم لا على ما ذكرنا من القولين فإذا ورد عليك تحريم رضاع أو مصاهرة فاعتبره بما ذكرنا من طروئه أو أزليته، فلا تجعله مظاهرا به إن كان طارئا واجعله مظاهرا به في أصح القولين إن كان أزليا ، والشافعي وإن أطلق ذكر الرضاع والمصاهرة من غير تفصيل فقد فصله المزني [ ص: 433 ] والربيع عنه وهما أعرف بمراده فلا وجه لمن وهم من أصحاب فسوى بين الأمرين والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية