الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

82 - ولو أن عينا ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديما وهطلا      83 - ولكنها عن قسوة القلب قحطها
فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا



(ساعدت): عاونت. (توكفت): من الوكف، وهو القطر من وكف البيت إذا هطل. (والسحائب): جمع سحابة، والمراد المدامع، شبهها بالسحائب في هطول دمعها، و(الديم): جمع ديمة: المطر الدائم. و(الهطل): جمع هاطل، وهو المتتابع من المطر. و(القحط): الجدب. و(السبهلل): الذي لا شيء معه أي فارغ.

والمعنى: لو ساعدت عين صاحبها على البكاء على التقصير في طاعة الله تعالى لهطلت [ ص: 37 ] مدامعها بالدمع، ولم ينقطع بكاها أبدا، ولكن قلة بكائها صادرة عن قسوة القلب بسبب الغفلة عن ذكر الله سبحانه. فاحذروا أن تمر أعماركم في اللهو واللعب، وما لا يعود عليكم بالنفع في الحال والمآل.


84 - بنفسي من استهدى إلى الله وحده     وكان له القرآن شربا ومغسلا
85 - وطابت عليه أرضه فتفتقت     بكل عبير حين أصبح مخضلا



(استهدى): طلب الهداية. (الشرب): النصيب المقسوم من الماء. (المغسل): مكان الغسل. (فتفتقت): انشقت. (والعبير): الزعفران، أو نوع من الطيب يخلط به.

و(المخضل): المبتل. و(بنفسي): متعلق بمحذوف تقديره أفدي.

والمعنى: أفدي بنفسي من كل مكروه من توجه في طلب هداية الله وحده، وكان له القرآن بملازمة تلاوته والعمل بما فيه حظه ونصيبه من الدنيا ومطهرا له من أوضار الذنوب.

وطابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى، وكنى بقوله: فتفتقت بكل عبير، عن ثناء أهلها عليه، واغتباطهم به، أو أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي لقيامه بالحق وبطاعة الله عز وجل. وكنى بقوله: مخضلا، عما أفاض الله عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده.


86 - فطوبى له والشوق يبعث همه     وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا
87 - هو المجتبى يغدو على الناس كلهم     قريبا غريبا مستمالا مؤملا



(طوبى): فعلى مصدر طاب يطيب، أصله طيبى، قلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها.

والمعنى: والحالة الطيبة له، أو طوبى الجنة له، (فطوبى): مبتدأ والجار والمجرور خبره والجملة خبرية أو دعائية، والضمير في (له) يعود على المستهدي، (والهم): القصد والإرادة، (والزند): ما يقدح به النار، و(الأسى): التأسف من أسيت على الشيء أسفت عليه، وحزنت، ومنه قوله تعالى: فكيف آسى على قوم كافرين (يهتاج): ينبعث ويلتهب، و(مشعلا): حال من فاعل يهتاج.

والمعنى: العيش الرغد الناعم للمستهدي حين يثير الشوق قصده إلى ما أعده الله [ ص: 38 ] لأهل طاعته من ثواب جزيل ونعيم مقيم. وحين يحترق قلبه من الأسى والحزن متحسرا على ما ضاع من عمره، غير مصروف إلى ذكر الله تعالى وشكره. وقوله: (هو المجتبى): أي المختار (يغدو): يعني يمر. و(المستمال): الذي يطلب إليه الميل. و(المؤمل): الذي يؤمل ويرجى عند الشدائد.

والمعنى: أن المستهدي هو المختار عند الله سبحانه، وهو الذي سبقت له الحسنى. يمر على الناس قريبا من الله تعالى لإيمانه وإحسانه، ومن الناس بتواضعه لهم وخفض جناحه. غريبا لغرابة مسلكه، وندرة حاله، وعزة أشكاله في شدة التمسك بالحق لأنه كالقابض على الجمر مستمالا يطلب منه من يعرف حاله الميل إليه والإقبال عليه. مؤملا مرجوا عند نزول الشدائد ليدعو بكشفها وإزالة آثارها.


88 - يعد جميع الناس مولى لأنهم     على ما قضاه الله يجرون أفعلا
89 - يرى نفسه بالذم أولى لأنها     على المجد لم تلعق من الصبر والألا



يعني أن المجتبى يعتقد كل الناس سادات تواضعا منه لله سبحانه، فلا يحتقر أحدا من عباد الله صالحا أو طالحا، لأن أفعالهم تجري على ما سبق به القضاء، وكتب القلم، ويصح أن يكون.

المعنى: أن المجتبى يعد كل واحد من الناس عبدا مقهورا لله تعالى، لا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا، لأن جميع أعمالهم تجري على وفق القضاء السابق، فلا يرهب أحدا ولا يتملق لأحد. فعلى المعنى الأول: يكون المقصود وصف المجتبى بالتواضع والبعد عن الكبر والعجب. وعلى الثاني: يكون المراد وصفه بالتوكل على الله وحده وقطع طمعه في الخلق. ثم بين الناظم أن هذا المجتبى يرى نفسه أولى بالذم وأحق به من غيرها لأن نفسه لم تتحمل المشاق والمكاره، ولم تتناول ما هو مر المذاق في تحصيل رفعة القدر وسمو المنزلة عند الله تعالى، فهو لا يشغل نفسه بعيب الناس وذمهم، بل يرى أن ذم نفسه أولى واتهامها بالتقصير في الطاعات أحرى. فالمراد من قوله: (لم تلعق من الصبر) أن نفسه لم تتحمل المكاره والمشاق في سبيل تحصيل ما يرفع مكانتها ويعظم أجرها عند الله تعالى، والصبر بفتح الصاد وكسرها مع سكون [ ص: 39 ] الباء وبفتح الصاد مع كسر الباء عصارة شجر مر.

و(الألا): شجر حسن المنظر مر الطعم، وقيل: هو نبت يشبه الشيح في الريح والطعم.


90 - وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله     وما يأتلي في نصحهم متبذلا



(الإقصاء): الإبعاد. فيقصيه يبعده. (يأتلي): يفتعل من الائتلاء وهو التقصير. (والتبذل): بذل ما في الوسع في تحقيق الشيء وعدم التهاون فيه.

والمعنى: قد قيل في المثل: كن كالكلب الذي هو أخس الحيوانات. كن مثله في الوفاء لأهله والثبات عليه. فإن أهله يبعدونه عنهم ويجيعونه ويضربونه ويؤذونه، وهو لا يقصر في نصحهم وخدمتهم باذلا في ذلك قصارى وسعه وغاية جهده، وفي ذلك إشارة إلى ما روى وهب بن منبه: (أن راهبا أوصى رجلا فقال له: انصح لله أخلص له حتى تكون كنصح الكلب لأهله، فإنهم يؤذونه ويجيعونه، ويأبى إلا أن يحيط بهم نصحا. والمقصود من البيت: الحث على بذل الجهد في طاعة الله عز وجل، وعدم التراخي فيها مهما ابتلي الإنسان في الدنيا، فإن الله عز وجل لا يبتلي عبده في هذه الحياة بفقر أو مرض إلا ليكفر ذنبه، أو يرفع في الآخرة درجته.


91 - لعل إله العرش يا إخوتي يقي     جماعتنا كل المكاره هولا
92 - ويجعلنا ممن يكون كتابه     شفيعا لهم إذ ما نسوه فيمحلا



(الوقاية): الحفظ. و(المكاره): جمع المكروه على غير قياس. و(هولا) جمع هائل بمعنى مخيف مفزع، وهو منصوب على الحال من المكاره، ويقال: (محل به) يمحل من باب فتح يفتح إذا وشى به عند سلطان أو غيره، وأذاع فعله القبيح. وقوله: (فيمحلا): منصوب بأن مضمرة بعد الفاء جوابا للنفي.

والمعنى: أن الناظم يرجو من الله جلت قدرته إن قبلنا هذه الوصايا أن يحفظنا الله سبحانه وتعالى من البلايا والمحن في الدنيا والآخرة، ويجعلنا من الذين يكون القرآن شفيعا لهم يوم القيامة، لأنهم لم يهملوه، ولم يقصروا في حقه فيسعى بهم، ويشكو منهم عند ربهم، وفي هذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم): (القرآن شافع مشفع، [ ص: 40 ] وماحل مصدق، من شفع له القرآن يوم القيامة نجا، ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله في النار على وجهه) [أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن].


93 - وبالله حولي واعتصامي وقوتي     وما لي إلا ستره متجللا
94 - فيا رب أنت الله حسبي وعدتي     عليك اعتمادي ضارعا متوكلا



(الحول): التحول من أمر إلى أمر ومن حال إلى حال. و(الاعتصام): الامتناع من كل ما يشين. و(القوة): القدرة، ضد الضعف. و(الستر): ما يستر به. و(التجلل بالشيء): التغطي به. و(حسبي): كافي، من أحسبه الشيء إذا كفاه. و(العدة): ما يعد لدفع النوازل. و(الضارع): الذليل. و(المتوكل): المعتمد على من يوكل إليه الأمر. و(متجللا): حال من ضمير المتكلم في لي. و(ضارعا، ومتوكلا): حالان من الياء في اعتمادي.

والمعنى: أن تحولي من المعصية إلى الطاعة، وامتناعي من كل ما يشينني، وقوتي على ما يرضي الله عني، كل ذلك بيد الله وحده، لا يحصل إلا بمعونته وتوفيقه، وفي الحديث الصحيح: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة). قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيرها: لا تحول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله. وقوله: (وما لي إلا ستره متجللا)، معناه ليس لي ما أعتمد عليه إلا ما قد جللني به من ستره في الدنيا، وأرجو مثل ذلك في الآخرة، أي وما لي إلا ستره حال كوني متجللا به أي متغطيا به. ثم يقول: (فيا رب أنت الله حسبي إلخ).

المعنى: يا مدبر أمري أنت كافي في كل مهمة. وعدتي في كل ملمة، وعليك لا على غيرك اعتمادي، وإليك استنادي حال كوني متضرعا إليك، ذليلا بين يديك، متوكلا عليك، مفوضا جميع أموري إليك، والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية