الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن شاة ، لأن اللبن يدخل في البيع ، ويقابله قسط من الثمن ، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعا من تمر ، ولأن اللبن في الضرع كاللبن في الإناء ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتثل ما فيها ؟ } فجعل اللبن كالمال في الخزانة ، فصار كما لو باع لبنا وشاة بلبن ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الحديث المذكور الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعا من تمر لم أجده بهذا اللفظ صريحا ، ولكنه يشير به إلى الحديث المشهور الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في باب بيع المصراة وهو متفق عليه ، وله ألفاظ ورد بها أقربها إلى المعنى الذي ذكره المصنف هنا قوله صلى الله عليه وسلم : { فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر } رواه البخاري ، وهو يفيد مقصود المصنف فإن [ ص: 436 ] قوله ( في حلبتها ) ظاهر في مقابلة اللبن ، والحديث الآخر حديث صحيح أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يحلبن أحد ماشية امرئ إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته ، فينتثل طعامه ؟ فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم لطعامهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه } . وقوله ينتثل أي يستخرج وهو . بياء مثناة من تحت مضمومة ثم نون ساكنة ثم تاء مثناة من فوق ثم ثاء مثلثة مفتوحتين . يقال : نثل ما في كنانته إذا صبها ونثرها . وقد ننثل البئر نثلا وانتثلتها إذا استخرجت ترابها ، وروي ينتقل بالقاف بدل التاء المثلثة أي يذهب وينقل عن الضرع ، والرواية الأولى أكثر ، وأشهر وهي التي فسرها أهل الغريب والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة وجمعها مشارب ، وقول المصنف : شاة أحدكم أن لفظ الشاة لم أجده في شيء من الروايات .

                                      أما حكم المسألة نص عليه الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر والأم . ولا خير في شاة فيها لبن يقدر على حلبه بلبن من قبل أن في الشاة لبنا لا أدري كم حصته من الثمن الذي اشتريته به نقدا ؟ وإن كان نسيئة فهو أفسد للبيع ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للبن التصرية بدلا ، وإنما اللبن في الضرع كالجوز واللوز المبيع في قشره ، يستخرجه صاحبه إذا شاء . وليس كالولد لا يقدر على استخراجه ، هذا لفظ المختصر . وقال في الأم . ولا بأس بلبن شاة يدا بيد ، ونسيئة ، إذا كان أحدهما نقدا ، والدين منهما موصوف في الذمة ، وصرح في مواضع من الأم بجواز ذلك نقدا ونسيئا ثم قال : فإن قال قائل : كيف اخترت لبن الشاة بالشاة في ضرعها لبن ، فيقال : إن الشاة نفسها لا ربا فيها ، إنما تؤكل بعد الذبح أو السلخ أو الطبخ أو الشاة نفسها لا ربا فيها ، إنما تؤكل بعد الذبح أو السلخ أو الطبخ أو التجفيف فلا تنسب الغنم إلى أن تكون مأكولة إنما تنسب إلى أنها حيوان ، وقد اتفق الأصحاب على هذين الحكمين وأن بيع الشاة التي في ضرعها لبن بلبن [ ص: 437 ] شاة باطل كما قرره الشافعي رضي الله عنه من أن اللبن الذي في الضرع يقابله قسط من الثمن . قال القاضي أبو الطيب : قولا واحدا وإن كان في الحمل قولان بدليل خبر المصراة ولولا أن اللبن يتقسط عليه الثمن لما ألزمه رد بدله كما لو اشترى نخلة فأثمرت في يده ، أو شاة فحملت وولدت ثم ردها ، ولأن ما في الضرع مثل ما في الخزانة بدليل الحديث الذي ذكره المصنف . وهذا الذي ذكرناه من أن اللبن يقابله قسط من الثمن هو المنصوص المشهور الذي قطع به الأصحاب هاهنا . وسيأتي في باب المصراة ذكر وجه فيه ، والكلام عليه هناك ، ومع هذا فلا خلاف في امتناع بيع الشاة اللبون باللبن والله أعلم .

                                      قال الأصحاب : فوجب أنه لا يصح بيع شاة في ضرعها لبن أصلا ، لأن اللبن مجهول كما لو ضم إلى الشاة لبنا مغطى ، فالجواب أنه إن لم يجز البيع هناك لأن كلا من الشاة واللبن المضموم إليها مقصود بالبيع ، واللبن في الضرع تابع ، وإن كان له قسط من الثمن بدليل دخوله إذا أطلق البيع في الشاة ، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره ، ولذلك صح بيعه كأساس الحائط ورءوس الجذوع وطي البئر ونحو ذلك ، ولا يلزم من جعله تابعا في انتفاء الغرر أن يكون تابعا في انتفاء الربا ، كالثمرة قبل بدو الصلاح إذا بيعت مع أصلها تابعة من غير شرط القطع جاز ، ولو باع نخلة مثمرة بتمر لم يصح ، فكان ربا ، فتبعت في انتفاء الغرر ولم تتبع في انتفاء الربا . قال القاضي حسين : ولأن اللبن مما يجري فيه الربا ، وإن كان متصلا بالحيوان ولا يشبه الحمل لأن الحمل لا يمكن استخراجه متى شاء ، والفرق بين اللبن والحمل على أحد القولين القائل بأنه ليس له قسط من الثمن أن اللبن مقدور على تناوله بخلاف الحمل ، فأشبه الجوز واللوز في قشره ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه بيع الشاة ذات اللبن باللبن . قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب والمحاملي : وهكذا الحكم إذا ذبحت هذه الشاة التي فيها لبن ثم بيعت بلبن ، وهو أفسد ، لأنه بيع لحم ولبن بلبن ، ولو باع الشاة التي في ضرعها لبن بلبن إبل ونحوه من غير لبن الغنم .

                                      ( فإن قلنا : ) إن [ ص: 438 ] الألبان صنف واحد لم يجز ( وإن قلنا : ) أصناف جاز ، قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم : فعلى هذا الصحيح : الجواز ، لأن الصحيح أنها أجناس ، ولم يذكر الصيمري في شرح الكفاية غيره ، ولذلك احترز المصنف في قوله : بلبن الشاة ، فإنه إذا باع الشاة التي في ضرعها لبن من غير جنسها وقلنا : إن الألبان أجناس قال المحاملي : فيكون بمنزلة أن يبيع طعاما ربويا بشعير ، فيصح البيع ، يعني على الأصح في الجمع بين مختلفي الحكم ، وكذلك قال الرافعي : فيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم ، وهو في ذلك تابع القاضي حسين وصاحب التهذيب ، فإن ما يقابل اللبن باللبن يشترط فيه التقابض ، وما يقابله من الحيوان لا يشترط فيه التقابض .

                                      ( قلت ) وفي التحريم كما تقدم نظر في بيع خل التمر بخل الزبيب وفي بيع الدراهم المغشوشة بعضها ببعض ; لأنه يمتنع إفراد كل واحد بحكمه إذ اللبن الذي في الضرع لا يمكن تسليمه وحده فلو نزل العقد عليه منزلة عقد مستقل لاقتضى البطلان والله أعلم ; ولأجل ذلك والله أعلم أطلق الماوردي القول بأنا إذا قلنا : الألبان أجناس صح العقد ( والحكم الثاني ) إذا باع شاة غير ذات لبن ، قال الشيخ أبو حامد : بأن لا تكون ولدت قط جاز البيع ، اتفق عليه الأصحاب أيضا تبعا للشافعي رضي الله عنه نقدا ونسيئة ، والتفرق قبل القبض ، قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب : ونص الشافعي رضي الله عنه في حرملة في التي لها لبن قد حلب ولم يستخلف بعد شيء منه فباعها بلبن شاة يجوز ، وهذا ; لأنه لم يكن هناك لبن يجتمع ، والقليل الذي ينز لا تأثير له ، واتفق الأصحاب أيضا على هذا الحكم ، وممن جزم به القاضي حسين والبغوي والرافعي ، وصرح الإمام بالصحة في اللبون إذا لم يكن في ضرعها لبن وقت البيع ، أو كان نزرا لا يقصد حلب مثله لقلته .

                                      قال : فإن مثله ليس مقصودا ، والحيوان مخالف لجنس اللبن ، فليلتحق ببيع المخيض بالزبد مع النظر إلى الرغوة ، وشبهه بعضهم بالدار [ إذا ] ذهبت ، واستهلك الذهب إذا بيعت بدار مثلها أو بالذهب يجوز ، قال الشيخ أبو حامد [ ص: 439 ] وأبو الطيب والمحاملي فإن ذبحت هذه الشاة وسلخت وبيعت باللبن صح البيع ; لأنه لحم لا شيء معه بلبن ، ويشترط التقابض ، ونقله القاضي أبو الطيب عن نصه في الصرف ، وقد أغرب الجيلي فحكى فيما نقله ابن الرفعة عنه وجها أنه يجوز بيع اللبن بشاة في ضرعها لبن ، وهذا غريب جدا شاذ لا معول عليه ، قال ابن الرفعة : ويمكن أن يكون مأخذه ما حكاه الغزالي في المصراة أن اللبن في الضرع لا يقابله قسط من الثمن على رأي .

                                      ( فرع ) كما لا يجوز بيع الشاة التي فيها لبن بلبن ، كذلك لا يجوز بالزبد ، ولا بالسمن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، كما لا يجوز اللبن بشيء من ذلك ، صرح به الماوردي .



                                      ( فرع ) قال محمد بن عبد الرحمن الحضرمي في كتاب الإكمال لما وقع في التنبيه من الإشكال والإجمال قال الشافعي رحمه الله : ولو باع أمة ذات لبن بلبن آدمية جاز ، بخلاف شاة في ضرعها لبن بلبن شاة ، والفرق بينهما أن لبن الشاة في الشرع له حكم العين ، فلهذا لا يجوز عندنا الإجارة عليه ، ولبن الآدمية ليس له حكم العين بل هو كالمنفعة ، ولهذا حررنا عقد الإجارة عليه ( قلت : ) وهذا النقل غريب والتعليل حسن ، وفيه نظر ، وقد تقدم حكاية خلاف في أن لبن الآدمية هل يكون من جنس الألبان ؟ ( إذا قلنا ) بأن الألبان جنس واحد أم لا ، ولا يرد ذلك هنا ; لأن الكلام هناك إذا كان منفصلا فإنه يثبت له حكم الأعيان ، وهنا الألبان في الثدي هو الذي ادعى أنه ليس له حكم العين ، بل حكم المنفعة فلذلك قال : يصح ; لأنه لم يضم إلى الجارية عينا أخرى . ولم أجد هذا الفرع إلا في الكتاب ، فلا أدري هل الفرق من كلامه ؟ أو من كلام الشافعي ؟ ويعضده المذهب المشهور في أن الجارية المصراة لا يراد معها بدل اللبن ، وفيه وجه أنه يرد فعلى قياس ذلك الوجه قد يقال : ينبغي أن يقال هنا بامتناعها بلبن آدمي ، ; لأنه سلك به مسلك العين ، وإن باعها بلبن [ ص: 440 ] شاة أو بقرة فعلى المذهب المشهور ، وما نقله الحضرمي عن النص يكون الجواز من طريق الأولى ، وعلى الوجه الذي حكيناه في التصرية ينبغي أن يتخرج على أن الألبان أجناس أو لا ؟ ( فإن جعلناها ) أجناسا جاز ( وإن جعلناها ) جنسا فيتخرج على خلاف تقدم في أن لبن الآدمي من جملتها أم لا ؟ ( فإن قلنا : ) لا ، جاز ( وإن قلنا : ) من جنسها فقياس ذلك الوجه المنع . ( وأما ) التمسك بجواز الإجارة عليه في كونه يسلك به مسلك المنافع ففيه وفي تسويغ الإجارة عليه في باب الإجارة فالاستدلال بالحكم الثابت في التصرية أولى ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية