الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : واللعان حكم ورد به الشرع في الأزواج بعد استقرار حد الزنا والقذف على العموم .

                                                                                                                                            والأصل فيه : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .

                                                                                                                                            فأما الكتاب فقوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين [ النور : 6 ، 7 ] فبين بهذه الآية لعان الزوج ، ثم بين بعدها لعان [ ص: 4 ] الزوجة قال : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .

                                                                                                                                            فقوله : والذين يرمون أزواجهم يعني بالزنا ، فكان ذلك مضمرا دل عليه المظهر .

                                                                                                                                            وقوله : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم أي : ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم ؛ لأن الإنسان لا يكون شاهدا لنفسه .

                                                                                                                                            وقوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين أي : فيمين أحدهم أربع أيمان بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا . فعبر عن اليمين بالشهادة .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : هي شهادة محضة اعتبارا بحقيقة اللفظ ، ولأن العدد فيها موافق لعدد الشهود في الزنا ، ولذلك منع أبو حنيفة من لعان الكافر والمملوك ، لرد شهادتهما ، وهذا تأويل فاسد ؛ لأن شهادة الإنسان لنفسه مردودة ، ويمينه لنفسه مقبولة ، والعرب قد تعبر عن اليمين بالشهادة . قال قيس بن الملوح :


                                                                                                                                            فأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها ليا



                                                                                                                                            أي أحلف بالله ، وهذه مسألة يأتي الكلام فيها مع أبي حنيفة .

                                                                                                                                            وأما السنة : فقد كان ذلك في قصتين ، إحداهما في عويمر العجلاني ، والثانية في هلال بن أمية ، فأما قصة عويمر العجلاني فقد رواها الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري . ورواها الأوزاعي ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد : أن عويمرا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا ، فأمرهما بالملاعنة فلاعنها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : انظروا ، فإن جاءت به أدعج العينين ، عظيم الإليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة ، فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها . فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر ، وكان بعد ينسب إلى أمه .

                                                                                                                                            [ ص: 5 ] وقوله : وحرة : هي دويبة .

                                                                                                                                            وقال سعيد بن جبير : ولقد صار أميرا بمصر وإنه ينسب إلى غير أبيه .

                                                                                                                                            وأما قصة هلال بن أمية : فقد رواها هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا الرجل على امرأته ينطلق يلتمس البينة ؟ قال : فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : البينة وإلا فحد في ظهرك ، قال : فقال هلال : والذي بعثك بالحق لينزلن الله في أمري ما يبرئ به ظهري من الحد ، قال : فنزل جبرائيل فأنزل عليه : والذين يرمون أزواجهم حتى بلغ : والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فأرسل رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما فجاءا ، فقام هلال بن أمية فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ فقامت فشهدت . فلما كانت عند الخامسة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أوقفوها فإنها موجبة ، قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، ففرق بينهما . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبصروها ، فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الإليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء ، فجاءت به كذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن .

                                                                                                                                            فهاتان القصتان وردتا في اللعان ، فذهب الأكثرون إلى أن قصة العجلاني أسبق من قصة هلال بن أمية .

                                                                                                                                            وقالت طائفة : إن قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني ، والنقل فيهما مشتبه مختلف ، والله أعلم بصواب ذلك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية