الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ألف. لام. را.. تلك آيات الكتاب المبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم. هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية. آيات الكتاب المبين. ولقد نزله الله كتابا عربيا مؤلفا من هذه الأحرف العربية المعروفة:

                                                                                                                                                                                                                                      لعلكم تعقلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتدركون أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون بشرا، فلا بد عقلا أن يكون القرآن وحيا. والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان جسم هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب، على وجه التخصيص:

                                                                                                                                                                                                                                      نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ..

                                                                                                                                                                                                                                      فبإيحائنا هذا القرآن إليك قصصنا عليك هذا القصص - وهو أحسن القصص - وهو جزء من القرآن الموحى به.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كنت من قبله لمن الغافلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فقد كنت أحد الأميين في قومك، الذين لا يتوجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها القرآن، ومنها هذا القصص الكامل الدقيق.

                                                                                                                                                                                                                                      هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت، إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين. قال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك، فيكيدوا لك كيدا. إن الشيطان للإنسان عدو مبين. وكذلك [ ص: 1971 ] يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم

                                                                                                                                                                                                                                      ..

                                                                                                                                                                                                                                      كان يوسف صبيا أو غلاما; وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان; وأقرب ما يراه غلام - حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به - أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها. ولكن يوسف رآها ساجدة له، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيما. والسياق يروي عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة:

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعيد لفظ رأى:

                                                                                                                                                                                                                                      رأيتهم لي ساجدين .

                                                                                                                                                                                                                                      لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام. لم يفصح هو عنه، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك. ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها. أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب. ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير - غير الشقيق - فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمرا يسوؤه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم علل هذا بقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الشيطان للإنسان عدو مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض، ويزين لهم الخطيئة والشر.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد أحس من رؤيا ابنه يوسف أنه سيكون له شأن، يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة; بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه، وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون. فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم . فقال له:

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك يجتبيك ربك، ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق (والجد يقال له أب) .. هذا طبيعي. ولكن الذي يستوقف النظر قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      ويعلمك من تأويل الأحاديث ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتأويل هو معرفة المآل. فما الأحاديث؟. أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه، منذ أوائلها. وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة، وجاء التعقيب:

                                                                                                                                                                                                                                      إن ربك عليم حكيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1972 ] مناسبا لهذا في جو الحكمة والتعليم؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد؟

                                                                                                                                                                                                                                      كلاهما جائز، وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد. ملزمون بهذا أولا من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف ، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر . وثانيا من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبئية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده.. لأنه موجود بالفعل! ..

                                                                                                                                                                                                                                      والسبب الأول يكفي.. ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت..

                                                                                                                                                                                                                                      فما هي طبيعة الرؤيا؟

                                                                                                                                                                                                                                      تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا يمثل جانبا من الأحلام. ولكنه لا يمثلها كلها. ( وفرويد ) ذاته - على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته - يقرر أن هناك أحلاما تنبئية.

                                                                                                                                                                                                                                      فما طبيعة هذه الأحلام التنبئية ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفتها لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها. إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب، وبعض سنن الله في هذا الوجود.

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو.. إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل، أو الحاضر المحجوب. وأن ما نسميه ماضيا أو مستقبلا إنما يحجبه عنا عامل الزمان، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان. وأن حاسة ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة، ليست علما ولكنها استشفاف، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس، وفي الرؤى لبعضهم، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان، أو هما معا في بعض الأحيان . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئا عن حقيقة الزمان. كما أن حقيقة المكان ذاتها - وهي ما يسمى بالمادة - ليست معلومة لنا على وجه التحقيق: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا !

                                                                                                                                                                                                                                      على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ويسدل السياق الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر: مشهد إخوة يوسف يتآمرون، مع حركة تنبيه لأهمية ما سيكون:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1973 ] لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة. إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين. قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان في قصة يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عن الآيات ويسأل ويهتم. وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام. لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور وراءه من أحداث وحركات. فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما يدبرون.

                                                                                                                                                                                                                                      ترى حدثهم يوسف عن رؤياه كما يقول كتاب "العهد القديم" ؟ إن السياق هنا يفيد أن لا. فهم يتحدثون عن إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم. أخيه الشقيق. ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم، ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه. فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له. ولم يكن بد أن يتم؛ لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة، لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، والتي تمهد لها ظروف حياته، وواقع أسرته، ومجيئه لأبيه على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر. كما كان الحال مع يوسف وأخيه، وإخوته من أمهات.

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ..

                                                                                                                                                                                                                                      أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع..

                                                                                                                                                                                                                                      إن أبانا لفي ضلال مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إذ يؤثر غلاما وصبيا صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان، فيختل تقديرهم للوقائع، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة، وتهون أحداث ضخام. تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه، وهو لهم أخ. وهم أبناء نبي - وإن لم يكونوا هم أنبياء - يهون هذا. وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله:

                                                                                                                                                                                                                                      اقتلوا يوسف. أو اطرحوه أرضا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهما قريب من قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغالب إلى الموت.. ولماذا؟

                                                                                                                                                                                                                                      يخل لكم وجه أبيكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلا يحجبه يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها:

                                                                                                                                                                                                                                      وتكونوا من بعده قوما صالحين ! ..

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا ينزغ الشيطان، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر; حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لإرتكاب الجريمة يزينه الشيطان!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1974 ] ولكن ضميرا واحدا فيهم، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلا يريحهم من يوسف ، ويخلي لهم وجه أبيهم، ولكنه لا يقتل يوسف ، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك. إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيدا:

                                                                                                                                                                                                                                      قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف، وألقوه في غيابت الجب، يلتقطه بعض السيارة. إن كنتم فاعلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ونحس من قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      إن كنتم فاعلين ..

                                                                                                                                                                                                                                      روح التشكيك والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إيقاع الأذى بيوسف . وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم; ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه.. نفهم هذا من المشهد التالي في السياق..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية