الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان جنود القلب .

قال الله تعالى : وما يعلم جنود ربك إلا هو فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو .

ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب فهو الذي يتعلق بغرضنا .

وله جندان : جند يرى بالأبصار ، وجند لا يرى إلا بالبصائر وهو في حكم الملك والجنود في حكم الخدم والأعوان فهذا معنى الجند ، فأما جنده المشاهد بالعين فهو : اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة ، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له فهو المتصرف فيها والمردد لها وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم وكذا سائر الأعضاء وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى ، فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافا بل ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وإنما يفترقان في شيء ، وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها ، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والانطباق على سبيل التسخير ، ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب ، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه فلأجله خلقت القلوب .

قال الله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإنما مركبه البدن وزاده العلم ، وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى فالدنيا ، مزرعة الآخرة وهي منزل من منازل الهدى ، وإنما سميت دنيا لأنها أدنى المنزلتين فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم ، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه ، وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين : باطن وهو الشهوة .

وظاهر وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء ، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر ، لأجل دفع المهلكات إلى جندين : باطن وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء وظاهر وهو اليد والرجل الذي بهما يعمل بمقتضى الغضب ، وكل ذلك بأمور خارجة فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه فافتقر للمعرفة إلى جندين : باطن وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق ، وظاهر وهو العين والأذن والأنف وغيرها .

وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة .

وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به .

فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف : صنف باعث ومستحث إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب ، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة والثاني : هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار .

التالي السابق


(بيان جنود القلب) :

(قال تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو ) قال قتادة: من كثرتهم . أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر ، وعن ابن جرير مثله. أخرجه ابن المنذر ، وفي حديث أبي سعيد الخدري " صاحب سماء الدنيا ملك اسمه إسماعيل ، وبين يديه سبعون ألف ملك ، مع كل ملك منهم جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية. أخرجه الطبراني في الأوسط. (فلله سبحانه وتعالى في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم) الملكوتية (جنود مجندة) أي: كثيرة مجتمعة (لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو) جل جلاله ، (ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب وهو الذي يتعلق بغرضنا) في الكتاب (وله) أي: للقلب (جندان: جند يرى بالأبصار ، وجند لا يرى إلا بالبصائر وهو) أي: القلب (في حكم الملك) المتصرف في رعايته (والجنود في حكم الخدم والأعوان) والأتباع (وهذا معنى الجند ، فأما جنده المشاهد بالعين فهو: اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة ، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له وهو المتصرف فيها والمردد لها) لأنها بمنزلة الرعية له ، (وقد خلقت مجبولة على طاعة القلب لا تستطيع له خلافا ولا عليه تمردا) وعصيانا (فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم) كل ذلك بسرعة (وكذا سائر الأعضاء وتسخر الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخر الملائكة لله تعالى ، فإنهم جبلوا على الطاعة) والانقياد (لا يستطيعون له خلافا ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) به ، كما هو معلوم من شأنهم ، (وإنما يفترقان في شيء ، وهو أن الملائكة عالمة بطاعتها وامتثالها ، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والانطباق على سبيل التسخر ، ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها القلب ، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره) واحتياجه (إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق وهو السفر إلى الله تعالى

[ ص: 211 ] وقطع المنازل إلى لقائه) ومشاهدته ، (فلأجله خلقت القلوب قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) والمراد بالعبادة هنا المعرفة ، ولا تتم المعرفة إلا بالسفر إلى الله (وإنما مركبه البدن ، وإنما زاده) الذي يتزوده من دنياه (العلم) النافع ، (وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه العمل الصالح) فالعمل الصالح وإن كان فرعا للعلم النافع في الحقيقة لكنه صار بمنزلة الأصل في استقرار العلم به كما قيل: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ، ونقل صاحب الذريعة عن علي رضي الله عنه قال: الناس سفر والدنيا دار ممر ، لا دار مقر ، وبطن أمه مبدؤ سفره والآخرة مقصده ، وزمان حياته مقدار مسافته ، وسنوه منازله ، وشهوره فراسخه ، وأيامه أمياله ، وأنفاسه خطاه يسار به سير السفينة براكبها. كما قال الشاعر:


رأيت أخا الدنيا وإن كان حاضرا * أخا سفر يسرى به وهو لا يدري



(وليس يمكن أن يصل العبد إلى الله تعالى ما لم يسكن البدن) ويتزود من العلم والعمل (ولا) يصل ما (لم يجاوز الدنيا) بسفره منها (فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى ، والدنيا مزرعة الآخرة) قد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم (وهي منزل من منازل الهدى ، وإنما سميت دنيا) وهي تأنيث الأدنى (لأنها أدنى المنزلتين) من الدنو بمعنى القرب ، وأقصى المنزلتين وهي الآخرة ، ومنهم من جعله تأنيث الأدنأ بالهمز من الدناءة وهي الخساسة (فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم والبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم ، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه ، وإنما يتحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره) كالشرب واللبس والنسيم (وبأن يدفع عنه ما ينافيه ويهلكه من أسباب الهلاك) من الجوع المفرط ، والعطش المفرط ، وتخفيف اللباس في الشتاء ، وشم الروائح الكريهة ، واستعمال ما يضر من المسكرات والسموم ، وغير ذلك (فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن وهو الشهوة) وهي الإرادة النفسية (وظاهر وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء ، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه) من قبول الأغذية (وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوة ، وافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين : باطن وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء) وأصله من ثوران دم القلب تنبعث منه الحرارة ، فتنتشر في الأعضاء ، فيكون سببا لحماية عرضه وانتقامه ، (وظاهر وهو اليد والرجل الذي يعمل) من الحركات (بمقتضى الغضب ، وكل ذلك بأمور خارجة عن البدن كالأسلحة وغيرها) تقوية لها (ثم المحتاج إلى الغذاء إذا لم يعرف الغذاء لا تنفعه شهوة الغذاء وآلته فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن وهو إدراك البصر والذوق والشم والسمع واللمس ، وظاهر وهو العين والأذن والأنف وغيرها ، وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ذكره) لكثرة الكلام فيه، وفي متعلقاته (ولا تحويه مجلدات كثيرة ، وقد أشرنا إلى طرف يسير منه في كتاب الشكر) كما سيأتي (فليقنع به ، فجملة جنود القلب يحصرها ثلاثة أصناف:) الأول: (صنف باعث) ومحرك (ومستحث إما إلى جلب الموافق النافع كالشهوة وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب ، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة) إذ هي القوة المركبة من الشهوة والحاجة والأمل .

(و) الصنف (الثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد) من جلب نافع أو دفع ضار (ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة) إذ هي إظهار الشيء من غير سبب ظاهر (وهي جنود مبثوثة) أي: منتشرة (في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار) أما الأوتار جمع وتر محركة وهو عضو عصباني ينبت من طرف العضل ، فيلاقي الأعضاء المتحركة وهو مؤلف في الأكثر من العصب البارز منها في

[ ص: 212 ] في الجهة الأخرى ، ومن الرباط الذي هو عضو عصباني المرأى والملمس من جهة البياض واللزونة ، وقد تتألف من أوتار عضلات كثيرة موضوعة على الساق كوتر العنق ، وأما العضلات محركة جمع عضلة كقصبة وقصبات ، فهو اسم لجملة العصب والرباط ، وإذا استدقت وتشظت شظايا دقاقا وحشي الخلل الواقع بينها لحما وغشي غشاء ، ومنفعة العضل أن الإنسان إذا أراد أن يصرف عضوا من آخر حرك فتشنجت وزاد في عرضها، ونقص من طولها ، وإذا أراد التبعيد حركها فاسترخت وزاد في طولها ونقص من عرضها ، فحصل المقصود ، والعضل الذي يحرك عضوا كبيرا كالعضل الذي في الفخذ المحرك وينبت منه إما وتر وإما أوتار متصل بالعضو الذي يحركه ، وربما تعاونت عدة عضلات على تحريك عضو واحد ، والذي يحرك عضوا صغيرا يكون صغيرا كالعضلات المحركة للأجفان العليا ، فإنها صغار جدا وليس لها أوتار ، وكل عضو يتحرك حركة إرادية فإنه له عضلة بها تكون حركته ، فإن كان يتحرك إلى جهات مضادة كانت له عضلات متضادة الوضع ، يجذبه كل منها إلى ناحيتها عند كون تلك الحركة ، ويمسك المضادة لها عن فعلها وإن أعملت المتضادتان في الوضع في وقت واحد انشق العضو أو تمدد وقام مستقيما لا يتحرك ، مثال ذلك أن الكف إذا مدها العضل الموضوع في باطن الساعد انثنى، وإن مده العضل الموضوع في ظهره انحنى وانقلب إلى خلف ، وإن مداها جميعا استوى وقام بينهما ، وجملة ما للبدن من الحركات الإرادية حركة جلدة الجبهة وحركة العينين والخدين وطرفي الأنفين والشفتين واللسان ، وحركة الحنجرة والفك ، وحركة الرأس والعنق ، وحركة الكتف ، وحركة مفصل العضد مع الساعد ، وحركة مفصل الساعد مع الرسغ ، وحركة الأصابع ، وكل واحد من مفاصلها ، وحركة الأعضاء التي في الحلق وحركة الصدر للتنفس وحركة القضيب وحركة المثانة في منعها خروج البول ، وحركة المعاء المستقيم في منعها خروج الثقل وحركة مراق البطن ، وحركة مفصل الورك ، وحركة مفصل الفخذ والساق ، وحركة مفصل الساق والقدم .، وجملة ما ذكر جالينوس من عضلات البدن خمس مائة وتسع وعشرون أو سبع وعشرون عضلة ؛ منها تسع للوجه وأربع وعشرون للعينين ، واثنتا عشرة لتحريك الفك الأسفل وثلاث وعشرون لتحريك الرأس والعنق وثنتان وثلاثون لحركة الحلق والحنجرة ، وتسع لتحريك اللسان وأربع عشرة للكتفين ، وست وعشرون للعضدين ، وثمان لعضل المرفقين ، وأربع وثلاثون للساعدين ، وست وثلاثون في الكتفين ، ومائة وسبع لحركة الصدر ، وثمان وأربعون لتحريك الصلب ، وثمان موضوعة على البطن: أربع للأنثيين، وواحدة لعنق المثانة، وأربع يحرك الذكر ، وأربع يحيط بالدبر ، وست وعشرون لعضل الورك ، وقيل: أربع وعشرون لمفصل الركبتين وحركة الساق ، وثمان وعشرون لحركة القدم وبعض حركات الأصابع ، وثمان وخمسون أو ثنتان وخمسون موضوعة في القدم ، ولبيان ذلك تفصيلا تطويلا لا يسعه هذا الموضع ، وإنما أشرنا بجمل منها لئلا يخلو الكتاب منه .




الخدمات العلمية