الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 602 ] باب القصر والإتمام في السفر في الخوف وغير الخوف

حدثنا الربيع قال ( قال الشافعي ) قال الله - جل ثناؤه - { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية .

( قال الشافعي ) وكان بينا في كتاب الله أن القصر في السفر في الخوف وغير الخوف معا رخصة من الله لا أن الله فرض أن تقصروا كما كان بينا في كتاب الله أن قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } رخصة لا أن حتما من الله أن يطلقوهن من قبل أن يمسوهن ، وكما كان بينا في كتاب الله { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } إلى { جميعا أو أشتاتا } رخصة لا أن الله تعالى حتم عليهم أن يأكلوا من بيوتهم ولا من بيوت آبائهم ولا جميعا ولا أشتاتا وإذا كان القصر في الخوف والسفر رخصة من الله كان كذلك القصر في السفر بلا خلاف فمن قصر في الخوف والسفر قصر بكتاب الله ثم بسنة رسول الله ومن قصر في سفر بلا خوف قصر بنص السنة ، وأن رسول الله أخبر أن الله تصدق بها على عباده فإن قال قائل فأين الدلالة على ما وصفت ؟ قيل : أخبرنا مسلم وعبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج قال أخبرني ابن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن { يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب إنما قال الله { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد أمن الناس ، فقال عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته } فدل رسول الله على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصروا ودلت على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر ، وأن عائشة قالت كل ذلك قد فعل { رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم في السفر وقصر } ( حدثنا الربيع ) أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن ابن عباس قال { سافر رسول الله من مكة إلى المدينة آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين } .

حدثنا الربيع حدثنا الشافعي أخبرنا إبراهيم عن أبي يحيى عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن عائشة قالت كل ذلك قد فعل { رسول الله أتم في السفر وقصر } .

( باب الخلاف في ذلك )

أخبرنا الربيع قال ( قال الشافعي ) رضي الله عنه قال لي بعض الناس من أتم في السفر فسدت صلاته لأن أصل فرض الصلاة في السفر ركعتان إلا أن يجلس قدر التشهد في مثنى فيكون ذلك كالقطع للصلاة أو يدرك مقيما يأتم به في صلاته قبل أن يسلم منها فيتم قال يقال له ما قلت للمسافر أن يتم ولا صححت عليه قولك أن يقصر قال : كيف ؟ قلت أرأيت لو كان المسافر إذا صلى أربعا كانت اثنتان منها نافلة أكان له أن يصلي خلف مقيم ؟ لقد كان يلزمك في قولك أن لا يصلي خلف مقيم أبدا إلا فسدت صلاته من وجهين أحدهما أنه خلط عندك نافلة بفريضة والآخر أنك تقول إذا اختلفت نية الإمام والمأموم فسدت صلاة المأموم ونية الإمام والمأموم مختلفة ههنا في أكبر الأشياء ، وذلك عدد الصلاة قال : إني أقول إذا دخل خلف المقيم حال فرضه قلت بأنه يصير مقيما أو هو مسافر قال بل هو مسافر قلت فمن أين يحول فرضه ؟ قال قلنا إجماع من الناس أن المسافر إذا صلى خلف مقيم أتم قلت وكان ينبغي أن لو لم تعلم في أن للمسافر أن يتم إن شاء كتابا ولا سنة أن يدلك هذا على أن له أن يتم وقلت له قلت فيه قولا محالا قال وما هو ؟ قلت : أرأيت المصلي المقيم إذا جلس في مثنى من صلاته قدر التشهد أيقطع ذلك صلاته ؟ قال : لا ، ولا يقطعها إلا السلام أو الكلام أو العمل الذي يفسد الصلاة [ ص: 603 ] قلت : فلم زعمت أن المسافر إذا جلس في مثنى قدر التشهد وهو ينوي حين دخل في الصلاة في كل حال أن يصلي أربعا فصلى أربعا تمت صلاته إلا أن الأولتين الفرض والآخرتين نافلة وقد وصلهما قال كان له أن يسلم منهما قلت : وقولك كان له يصيره حكم من سلم منهما أو لا يكون في حكمه إلا بالسلام فما علمته زاد على أن قال فأنا أضيق عليه إن قلت تفسد قلت فقد ضيقت إن سها فلم يجلس في مثنى وصلى أربعا فزعمت أن صلاته تفسد لأنه يخلط نافلة بفريضة فما علمتك وافقت قولا ماضيا ولا قياسا صحيحا وما زدت على أن اخترعت قولا أحدثته محالا ، قال فدع هذا ولكن لم تقل أنت إن فرضه ركعتان ؟ قلت أقول له أن يصلي ركعتين بالرخصة لا أن حتما عليه أن يصلي ركعتين في السفر كما قلت في المسح على الخفين له أن يغسل رجليه وله أن يمسح على خفيه .

قال فكيف قالت عائشة قلت أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر قال الزهري قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة ؟ قال إنها تأولت ما تأول عثمان ( قال الشافعي ) فقال فما تقول في قول عائشة ؟ قلت أقول إن معناه عندي على غير ما أردت بالدلالة عنها قال وما معناه ؟ قلت إن صلاة المسافر أقرت على ركعتين إن شاء قال وما دل على أن هذا معناه عندها قلت إنها أتمت في السفر قال فما قول عروة إنها تأولت ما تأول عثمان ؟ قلت لا أدري أتأولت أن لها أن تتم وتقصر فاختارت الإتمام وكذلك روت عن النبي ، وما روت عن النبي ، وقالت بمثله أولى بها من قول عروة إنها ذهبت إليه لو كان عروة ذهب إلى غير هذا وما أعرف ما ذهب إليه قال فلعله حكاه عنها قلت فما علمته حكاه عنها وإن كان حكاه فقد يقال تأول عثمان أن لا يقصد إلا خائف وما تقف على ما تأول عثمان خبرا صحيحا قال فلعلها تأولت أنها أم المؤمنين قلت لم تزل للمؤمنين أما وهي تقصد ثم أتمت بعد ، وحالها في أنها أم المؤمنين قبل القصر وبعده سواء وقد قصرت بعد رسول الله وأتمت قال : أما إن ليست لي عليك مسألة بأن أضل ما أذهب إليه وتذهب إليه أن ليس في أحد مع رسول الله حجة وإنك تذهب إلى أن فرض القرآن أن القصر رخصة لا حتم .

وكذلك روايتك في السنة قلت ما خفي علي ذلك ولكني أحببت أن تكون على علم من أني لم أرك سلكت طريقا في صلاة السفر إلا أخطأت في ذلك الطريق فتكون أوهن لجميع قولك قال : فقد عاب ابن مسعود على عثمان إتمامه بمنى قلت وقام فصلى بأصحابه في منزله فأتم فقيل له عبت على عثمان الإتمام وأتممت قال : الخلاف شر ، قال : نعم قلت وهذا مما وصفت من احتجاجك بما عليك قال ، وما في هذا مما علي ؟ قلت أترى أن ابن مسعود كان يتم وهو يرى الإتمام ليس له ؟ قال وما يجوز أن يكون ابن مسعود أتم إلا والإتمام عنده له وإن اختار القصر ، ولكن ما معنى عيب ابن مسعود الإتمام قلت له من عاب الإتمام على أن المتم رغب عن الرخصة فهو موضع يجوز له به القول كما نقول فيمن ترك المسح رغبة عن الرخصة ولا نقول ذلك فيمن تركه غير رغبة عنها ، قال أما إنه قد بلغنا عن بعض أصحاب النبي عليه السلام أنه عاب الإتمام وأتمها عثمان وصلى معه قلت فهذا مثل ما رويت عن ابن مسعود من أن صلاتهم لا تفسد أفترى أنهم في صلاتهم مع عثمان أنهم كانوا لا يجلسون في مثنى ؟ قال : ما يجوز هذا عليهم قلت أفتفسد صلاته وصلاتهم بأنهم يعلمون أنه يصلي أربعا وإنما فرضه زعمت ركعتان أو تراهم إذا ائتموا به في الإتمام لو سها ، فقام يخالفونه فيجلسون في مثنى ويسلمون .

قال ما يجوز لي أن أقول هذا قلت قد قلته أولا ثم علمت أنه يلزمك فيه هذا فأمسكت عنه وقد اجترأت على قوله أولا وهو خلاف الكتاب والسنة وخلافهما أضيق عليك من خلاف من امتنعت من أن تعطي خلافه قال فتقول ماذا ؟ قلت : ما وصفت من أنهم مصيبون بالإتمام بأصل الفرض ومصيبون بالقصر بقبول الرخصة كما أقول في كل رخصة وأن لا موضع لعيب الإتمام إلا أن يتم رجل يرغب عن قبول الرخصة .

التالي السابق


الخدمات العلمية