الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تنبيهات

الأول : نازع ابن أبي الحديد في الآية الأولى وقال : عندي أنه ليس بتجنيس أصلا ، [ ص: 498 ] وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد ، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ، وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا ، بل تكونا حقيقتين ، وإن زمان القيامة وإن طال لكنه عند الله تعالى في حكم الساعة الواحدة ؛ لأن قدرته لا يعجزها أمر ولا يطول عندها زمان ، فيكون إطلاق لفظة الساعة على أحد الموضعين حقيقة ، وعلى الآخر مجازا ، وذلك يخرج الكلام من التجنيس ، كما لو قلت : ركبت حمارا ، ولقيت حمارا ، وأردت بالثاني البليد ، وأيضا لا يجوز أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصة وزمان البعث ، فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد ، فيخرج عن التجنيس .

الثاني : يقرب منه الاقتضاب ، وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة ، كقوله تعالى : فأقم وجهك للدين القيم ( الروم : 43 ) .

وقوله : يمحق الله الربا ويربي الصدقات ( البقرة : 276 ) .

وقوله : فروح وريحان ( الواقعة : 89 ) .

وقوله : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ( فصلت : : 51 ) .

قال إني لعملكم من القالين ( الشعراء : 168 ) .

وجنى الجنتين دان ( الرحمن : 54 ) .

ياأسفى على يوسف ( يوسف : 84 ) .

تتقلب فيه القلوب والأبصار ( النور : 37 ) .

[ ص: 499 ] إني وجهت وجهي ( الأنعام : 79 ) .

اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ( التوبة : 38 ) .

الثالث : اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ، ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ، ولذلك مثالان :

أحدهما : قوله : أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ( الصافات : 125 ) فذكر الرازي في " تفسيره " : " أن الكاتب الملقب بالرشيد ، قال : لو قيل : " أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين " لكان تحصل به رعاية معنى التجنيس أيضا ، مع كونه موازنا لـ " تذرون " .

وأجاب الرازي بأن فصاحة القرآن ليس لأجل رعاية هذه التكلفات ، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ .

وقال بعضهم : مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ ، فلو كان " أتدعون " " وتدعون " كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارئ ، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه ، وحينئذ فينخرم اللفظ إذا قرأ " وتدعون " الثانية بسكون الدال ، لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط فيه ولا نقط .

قال : ومما صحف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى : قال عذابي أصيب به من أشاء ( الأعراف : 156 ) بالسين المهملة .

وقوله : إلا عن موعدة وعدها إياه ( التوبة : 114 ) بالباء الموحدة .

وقوله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ( عبس : 37 ) بالعين المهملة .

وقرأ ابن عباس : " من تدعون " على الاستفهام .

[ ص: 500 ] قلت : وأجاب الجويني عن هذا بما يمكن أن يتخلص منه أن " يذر " أخص من " يدع " ؛ وذلك لأن الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء بشهادة الاشتقاق ، نحو الإيداع ، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ، ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة ، وأما " تذر " فمعناها الترك مطلقا ، أو الترك مع الإعراض والرفض الكلي ، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول ، فأريد هنا تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم ، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض .

قلت : ويؤيده قول الراغب : يقال : فلان يذر الشيء ، أي : يقذفه ؛ لقلة الاعتداد به ، والوذرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد به ، نحو قولهم : " هو لحم على وضم " ، قال تعالى : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ( الأعراف : 70 ) وقال تعالى : ويذرك وآلهتك ( الأعراف : 127 ) فذرهم وما يفترون ( الأنعام : 112 ) وذروا ما بقي من الربا ( البقرة : 278 ) وإنما قال : تذرون ولم يقل : " تتركون " و " تخلفون " لذلك . انتهى .

وعن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه أجاب عن هذا السؤال بأن التجنيس تحسين ، وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان ، وهذا مقام تهويل ، والقصد فيه المعنى ، فلم يكن لمراعاة اللفظة فائدة .

وفيه نظر ، فإنه ورد في قوله : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ( الروم : 55 ) .

[ ص: 501 ] المثال الثاني : قوله تعالى : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( يوسف : 17 ) قال : معناه : وما أنت مصدق لنا ، فيقال : ما الحكمة في العدول عن الجناس ، وهلا قيل : " وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين " فإنه يؤدي معنى الأول مع زيادة رعاية التجنيس اللفظي ؟

والجواب : أن في " مؤمن لنا " من المعنى ما ليس في " مصدق " وذلك أنك إذا قلت : " مصدق لي " فمعناه : قال لي : صدقت . وأما " مؤمن " فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ، ومقصودهم التصديق وزيادة ، وهو طلب الأمن ؛ فلهذا عدل إليه .

فتأمل هذه اللطائف الغريبة ، والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز .

فائدة

قال الخفاجي : " إذا دخل التجنيس نفي عد طباقا ؛ كقوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) لأن " الذين لا يعلمون " هم الجاهلون ، قال : وفي هذا يختلط التجنيس بالطباق .

التالي السابق


الخدمات العلمية