الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الرتبة الثانية : أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ، ولكن من وراء جدار فتستدل ، به على كونه في الدار ، فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع ، فإنك إذا قيل لك : إنه في الدار ، ثم سمعت صوته ازددت به يقينا ؛ لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة فيحكم قلبه ، بأن هذا صوت ذلك الشخص وهذا ، إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضا ممكن أن يتطرق إليه ؛ إذ الصوت قد يشبه الصوت ، وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة ، إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع ، لأنه ليس يجعل للتهمة موضعا ، ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضا .

الرتبة الثالثة : أن تدخل الدار فتنظر إليه بعينك وتشاهده وهذه ، هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية ، وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين ؛ لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ .

نعم وهم أيضا يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف .

أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيدا في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس ، فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية ، فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو ، ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته .

ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية .

وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيدا وعمرا وبكرا وغير ذلك وآخر لا يرى إلا زيدا فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة فهذا حال ، القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


(الرتبة الثانية: أن يسمع كلام زيد) مثلا (وصوته من الدار، ولكن من وراء جدار ، فيستدل به على كونه في الدار ، فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع ، فإنك إذا قيل لك : إنه في الدار ، ثم سمعت صوته ازددت به يقينا ؛ لأن الصوت يدل على الشكل والصورة عند من سمع الصوت في حالة مشاهدة الصورة ، فقلبه يحكم بأن هذا صوت ذلك الشخص ، فهذا إيمان ممزوج بدليل) وهو يفيد في بعض الأمور وفي حق الناس تصديقا جازما بحيث لا يتغير صاحبه بإمكان خلافه أصلا، (والخطأ أيضا ممكن أن يتطرق إليه؛ إذ الصوت قد يشبه الصوت ، وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة ، إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع ، لأنه ليس يجعل للتهمة موضعا ، ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضا .

الرتبة الثالثة: أن تدخل الدار فتنظر إليه بعينك وتشاهده، فهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية ، وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين؛ لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين) أما انطواء إيمان العوام فظاهر وأما إيمان المتكلمين؛ فلأنه حاصل لهم بالبرهان المستوفى بشروطه المحررة بأصوله ، ومقدماته حتى لا يبقى مجال احتمال وممكن التباس، (ويتميزون) يعني أهل المشاهدة اليقينية (بمزية يستحيل معها إمكان الخطأ)

[ ص: 240 ] لقوة معرفتهم، وأصل سياق هذا المثال لصاحب القوت ، وقد أخذه المصنف وزاده تحريرا وبيانا ، وهذا لفظه : مثال ذلك فيما تعقله مثل رجل قال لك: إن عندي فلانا فقد حصل لك علم أنه عنده غير أن هذا العلم غير يقين؛ لأنه يجوز أن يكون قد اشتبه عليه أو يكون قد كان عندي ثم خرج، وليس هو الآن عندي ، وهذا مثل إيمان المسلم هو علم خبر لا خبر ، ثم إنك تأتي إلي لتراه فتسمع كلامه من وراء حجاب ، وقد علمت الآن أنه عندي؛ لأنك سمعت كلامه واستدللت على كونه؛ إلا أن هذا العلم أيضا غير تحقيق؛ لأن الأصوات تشتبه ، والأجرام تتفاوت ، ولو قلت لك: لم يكن عندي وإنما كان ذلك غيره أشبه صوته ، لشككت فيه لاحتمال ذلك ، ولم يكن عندك يقين تدفع به قوله ، ولا شهادة تنكر بها علي ، وهذا مثل لإيمان عموم المؤمنين ، فهو إيمان خبر لعمري، وفيه يقين استدلال ممتزج بظن ، غير أن مشاهدة العارفين قد يدخل عليهم التخييل والتشبيه فلا يدفعونه بشهادة يقين ، ثم إنك تدخل علي بعد أن قيل لك: هو عندي أو بعد أن سمعت كلامه فتشهده جالسا لا حجاب بينك وبينه ، فهذا هو يقين المعرفة ، وهذه شهادة المؤمن ، وعندها انتفى كل شك وتحقيق خبر العلم ، وهذا إيمان المؤمنين الذي قد اندرج فيه عموم المؤمنين عن علم الخبر المحتمل ، ومن سمع الكلام من وراء الحجاب المشتبه ، واسم الإيمان واقع على جميعهم، ولكن الأول علم أنه عندي بما قيل فصدقه ، والثاني علم بما سمع فاستدل ولم يشهد فيقطع ، والثالث عاين فقطع، وقد شهد رسول الله صلى الله عليه بالمزيد فقال: ليس الخبر كالمعاينة ، وليس المخبر كالمعاين .

ثم زاد صاحب القوت على هذا فقال: ومثل آخر في تفاوت المؤمنين في حقيقة الكمال ودخولهم في الاسم والمعنى مثل صلاة رباعية أقيمت ، فجاء رجل فأدرك الركعة الثانية ، ثم جاء آخر فأدرك الثالثة ، ثم جاء آخر فأدرك الرابعة ، وكلهم قد صلوا ، وقد أدرك الصلاة في جماعة ونال فضلها لقوله -صلى الله عليه وسلم- : " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " وليس من أدرك الركعة الأولى في كمال الصلاة وأدرك حقيقتها كمن أدرك الثانية أو الثالثة أو الرابعة ، ولا يكون أيضا من أدرك التكبير للإحرام في الفضل كمن لم يدرك شيئا من القيام ، وهما مدركان معا ، فكذلك المؤمنون في كمال الإيمان وحقائقه لا يستوون ، وإن استووا بالدخول في الاسم والمعنى .

(نعم وهم) أي: أهل المرتبة الثالثة .

(أيضا يتفاوتون بمقادير المعلوم وبدرجات الكشف ، أما الدرجات) الكشفية (فمثاله أن يبصر زيدا في الدار من قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس، فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية ، فيتمثل له من صورته ما يستيقن معه أنه هو ، ولكن يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته ، ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية) وقد أشار إلى هذا صاحب القوت بقوله: ومثل ذلك أيضا أن ترى الشيء بالنهار فتعرفه معرفة عين ، وتعرف مكانه بنظر لا تخطئه ، ثم إنك تحتاج إليه ليلا ، فلست تعرف مكانه رأي عين ، وإنما تقصده بمعرفة استدلال عليه ، وبحسن ظن أنه موجود ، أو بعرف معهود أنه لا يتحول ، وكذلك الأدلة التي هي للغائبات وسقوطها مع الشهادات ، وبمعناهما رؤية الشيء بنور القمر ، فإنه يشبح ويلوح المشكلات ورؤيته في ضياء الشمس ، فإنها تكشف الأمور على ما هو به فهو مثل لنور اليقين إلى نور الإيمان .

(وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيدا وعمرا وبكرا وغير ذلك وآخر لا يرى إلا زيدا فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة ، فهذه حالة القلب بالإضافة إلى العلوم) .




الخدمات العلمية