الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين

                                                          * * *

                                                          الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخير يرجو [ ص: 2129 ] أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة، ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر".

                                                          ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى:

                                                          فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله هذا النص الكريم يدل على أمرين: أحدهما: أن قابيل الذي قتل أخاه، ولو أنه أكد عزمته على الاعتداء بقوله: "لأقتلنك" كانت نفسه يتردد فيها عاملان: الأول عامل الود والرحم الواصلة، والثاني عامل الحسد والضغن، وثانيهما: أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمي في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى، ولذلك ما تحرك لمقاومته، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه.

                                                          ومعنى كلمة "طوعت" قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة، وقد فسر مجاهد "طوعت" شجعت، وفسرها بعض التابعين بـ سهلت ووسعت، وبعضهم بـ زينت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها، حتى انتصرت، وقرأ الحسن بدل "طوعت" "طاوعت" وهذه الصيغة تدل على المشاركة، وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال:

                                                          "إن هذه الكلمة (طوعت) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد، الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها [ ص: 2130 ] ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان، ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته".

                                                          وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن المقتول بقوله: فطوعت له نفسه قتل أخيه والمعنى: أن الأخوة، والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.

                                                          والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود، ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير، وأدق الألفاظ، وهو سر الإعجاز، وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.

                                                          فأصبح من الخاسرين أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها، والتعبير بـ أصبح هيأ لها المقام في الكلام لأن "أصبح" تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.

                                                          والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا اربد بالمعاصي، وطغى عليه الشر، حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه، وامتلاء قلبه [ ص: 2131 ] بالحسد، وأحس بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف، وأحس بغضب الله تعالى، وذلك هو الخسران المبين، وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل.

                                                          وهنا إشارة بيانية، وهي في التعبير بقوله تعالى: فأصبح من الخاسرين

                                                          فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا، ولا منجاة لهم، ولا بقاء، لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية، بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية