الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين

"النسيء" على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير، تقول العرب: أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره النسأ في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه" . وهذه قراءة جمهور الناس والسبعة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم [ ص: 310 ] معه في الشاذ: "النسي" مشددة الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد، والزهري : "النسيء" ، وقرأ أيضا فيما روي عنه: "النسء" على وزن "النسع"، وقرأت فرقة: "النسي" . فأما "النسيء" بالمد والهمز فقال أبو علي : هو مصدر مثل النكير والنذير وعذير الحي، ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول; لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقال أبو حاتم : هو فعيل بمعنى مفعول، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف، كأن المعنى: إنما إنساء النسيء، وقال الطبري : هو من معنى الزيادة، أي زيادتهم في الأشهر، وقال أبو وائل : كان "النسيء" رجلا من بني كنانة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا ضعيف، وأما "النسي" فهو الأول بعينه خففت الهمزة، وقيل: قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وأما "النسء" فهو مصدر من نسأ إذا أخر، وأما "النسي" فقيل: تخفيف همزة "النسء" وذلك على غير قياس، وقال الطبري : هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.

[ ص: 311 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، وقوله تعالى: زيادة في الكفر أي: جار مع كفرهم بالله، وخلاف منهم للحق، فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم:

ومنا منسئ الشهر القلمس

وقال الآخر:


نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول



ومنه قول جذل الطعان:


وقد علمت معد أن قومي ...     كرام الناس إن لهم كراما


فأي الناس فاتونا بوتر؟ ...     وأي الناس لم تعلك لجاما؟


ألسنا الناسئين على معد ...     شهور الحل نجعلها حراما؟



وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : "يضل" بفتح الياء وكسر الضاد، وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وعمرو بن ميمون : [ ص: 312 ] "يضل" بضم الياء وكسر الضاد، فإما على معنى: يضل الله، وإما على معنى: يضل به الذين كفروا أتباعهم، فـ "الذين" في التأويل الأول في موضع نصب، وفي الثاني في موضع رفع، وقرأ عاصم أيضا، وحمزة ، والكسائي ، وابن مسعود -فيما روي عنه-: "يضل" بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ( زين ) للتناسب في اللفظ، وقرأ أبو رجاء : "يضل" من ضل يضل، على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، وهي لغتان، يقال: ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى" بفتح الضاد وكسرها.

وقوله تعالى: يحلونه عاما ويحرمونه عاما معناه: عاما من الأعوام، وليس يريد أن تلك كانت مداولة في الشهر بعينه، عام حلال وعام حرام.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلا منه، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه، وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات، وقد بينه مجاهد ، وأبو مالك ، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار" مع أن الأمر كله قد تقضى، والله أعلم أي ذلك كان.

وقوله: ليواطئوا معناه: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة، تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.

[ ص: 313 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر، وقوله: زين يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هداية من حيث هم كفار.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وذكر أبو علي البغدادي في أمر النسيء أنه كان إذا صدر الناس من "منى" قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

واسم نعيم لم يعرف في هذا، وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم، كانوا يسمون القلامس وأحدهم قلمس، وكانوا يفتون العرب في الموسم، يقوم كبيرهم في الحجر، ويقوم آخر عند الباب، ويقوم آخر عند الركن فيفتون.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فهم -على هذا- عدة، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر"، فقال بعض الناس: إنه يريد بقوله: "لا صفر" هذا النسيء، وقيل غير ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية