الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  12 1 - حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا الليث، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الحديث مطابق للترجمة; لأنه أخذ جزءا منه فبوب عليه. فإن قلت: لم بوب على الجزء الأول، ولم يقل: باب إقراء السلام على من عرف، ومن لم يعرف من الإسلام. قلت: لا شك أن كون إطعام الطعام من الإسلام أقوى وآكد من كون إقراء السلام منه، ولأن السلام لا يختلف بحال من الأحوال بخلاف الإطعام فإنه يختلف بحسب الأحوال، فأدناه مستحب، وأعلاه فرض، وبينهما درجات أخر، ولأن التبويب بالمقدم، والمصدر أولى على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله)، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو الحسن عمرو، بفتح العين بن خالد بن فروخ، بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وفي آخره خاء معجمة ابن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقد بن عبد الله الحراني، سكن مصر، روى عن الليث بن سعد، وعبيد الله بن عمر، وغيرهما، روى عنه الحسن بن محمد الصباح، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: صدوق، وقال أحمد بن عبد الله: ثبت ثقة مصري، انفرد البخاري بالرواية عنه دون أصحاب الكتب الخمسة، وروى ابن ماجه عن رجل عنه، توفي بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الليث بن سعد المصري الإمام المشهور المتفق على جلالته، وإمامته، ويكنى بأبي الحارث مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أهل أصبهان، والمشهور أنه فهمي، وفهم من قيس غيلان، ولد بقلقشندة قرية على نحو أربعة فراسخ من مصر، روى عن جماعة كثيرين، وروى عن أبي حنيفة، وعده أصحابنا من أصحاب أبي حنيفة، وكذا قال القاضي شمس الدين ابن خلكان، وروى عنه خلق كثير، وقال أحمد: ثقة ثبت، وكان سريا نبيلا، سخيا له ضيافة، ولد في سنة أربع وتسعين، ومات يوم الجمعة النصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: يزيد بن أبي حبيب، واسم أبي حبيب سويد المصري، أبو رجاء تابعي جليل سمع عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبا الطفيل عامر بن واثلة من الصحابة، وخلقا من التابعين، روى عنه سليمان التيمي، وإبراهيم بن يزيد، ويحيى بن أيوب، وخلق كثير من أكابر مصر. قال ابن يونس: كان يفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا، وهو أول من أظهر العلم بمصر، والفقه، والكلام بالحلال والحرام، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدثون بالفتن والملاحم، وكان أحد الثلاثة الذين جعل إليهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الفتيا بمصر، وعنه قال كان يزيد نوبيا من أهل دنقلة فابتاعه شريك بن الطفيل العامري فأعتقه، ولد سنة ثلاث وخمسين، وقال ابن سعد: مات سنة ثمان وعشرين ومائة، روى له الجماعة أيضا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو الخير بالخاء المعجمة مرثد، بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح الثاء المثلثة أبو عبد الله اليزني المصري، روى عن عمرو بن العاص، وسعيد بن زيد، وأبي أيوب الأنصاري، وغيرهم، توفي سنة تسعين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) الحراني نسبة إلى حران، بفتح الحاء، وتشديد الراء المهملتين في آخره نون بعد الألف مدينة عظيمة قديمة تعد من ديار مصر، واليوم خراب، وقيل: هي مولد إبراهيم الخليل، ويوسف، وإخوته عليهم الصلاة والسلام. اليزني، بفتح الياء آخر الحروف، والزاي المعجمة، بعدها نون نسبة إلى ذي يزن، وهو عامر بن أسلم بن الحارث [ ص: 138 ] ابن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سرد بن زرعة بن سبأ الأصغر، وإليه تنسب الأسنة اليزنية، وهو أول من عمل سنان حديد، وإنما كانت أسنتهم صياصي البقر، وقيل: يزن موضع.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث، والعنعنة ليس إلا، ومنها أن رواته كلهم مصريون، وهذا من الغرائب; لأنه في غاية القلة، ومنها أن رواته كلهم أئمة أجلاء.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه، ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في باب الإيمان بعد هذا بأبواب عن قتيبة بن سعيد، وفي الاستئذان أيضا في باب السلام للمعرفة وغير المعرفة عن ابن يوسف، كلهم قالوا: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد، عن ابن عمرو رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الإيمان عن قتيبة، وابن رمح عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عنه. وأخرجه النسائي في الإيمان، وأبو داود في الأدب جميعا عن قتيبة به، وابن ماجه في الأطعمة عن محمد بن رمح به.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: " أن رجلا " لم يعرف هذا من هو، وقيل: أبو ذر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أي الإسلام خير " مبتدأ وخبر، وقد مر الكلام فيه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال " الضمير فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " تطعم " في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بتقدير أن، أي: هو أن تطعم، فـ "أن " مصدرية، والتقدير، هو إطعام الطعام، وهذا نظير قولهم: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه "، أي: أن تسمع، أي: سماعك، غير أن في هذا المؤول مبتدأ، وفي الحديث المؤول خبر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وتقرأ " بفتح التاء، وضم الهمزة; لأنه مضارع قرأ.

                                                                                                                                                                                  قوله: " السلام " بالنصب مفعوله، وقوله: " على " يتعلق بقوله: " تقرأ "، وكلمة من موصولة، وعرفت جملة صلتها، والعائد محذوف، والتقدير: عرفته، وقوله: " ومن لم تعرف " عطف على " من عرفت "، وهذه الجملة نظير الجملة السابقة.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الفوائد) منها أن فيه حثا على إطعام الطعام الذي هو أمارة الجود والسخاء، ومكارم الأخلاق، وفيه نفع للمحتاجين، وسد الجوع الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه إفشاء السلام الذي يدل على خفض الجناح للمسلمين، والتواضع، والحث على تألف قلوبهم، واجتماع كلمتهم، وتواددهم، ومحبتهم.

                                                                                                                                                                                  ومنها الإشارة إلى تعميم السلام، وهو أن لا يخص به أحدا دون أحد كما يفعله الجبابرة; لأن المؤمنين كلهم إخوة، وهم متساوون في رعاية الإخوة، ثم هذا العموم مخصوص بالمسلمين فلا يسلم ابتداء على كافر لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تبدءوا اليهود، ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه. رواه البخاري، وكذلك خص منه الفاسق بدليل آخر، وأما من يشك فيه فالأصل فيه البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص، ويمكن أن يقال: إن الحديث كان في ابتداء الإسلام لمصلحة التأليف، ثم ورد النهي.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل: لم قال: تطعم الطعام، ولم يقل: تؤكل ونحوه من الألفاظ الدالة عليه، وأجيب بأن لفظة: " الإطعام " عام يتناول الأكل والشرب، والذوق. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                  وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

                                                                                                                                                                                  فإنه عطف البرد الذي هو النوم على النقاخ، بضم النون، وبالقاف والخاء المعجمة، الذي هو الماء العذب، وقال تعالى: ومن لم يطعمه أي: ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه، وبعمومه يتناول الضيافة، وسائر الولائم، وإطعام الفقراء وغيرهم، ومنها ما قيل: إن باب أطعمت يقتضي مفعولين، يقال: أطعمته الطعام، فما المفعول الثاني هنا، ولم حذفه، وأجيب بأن التقدير أن تطعم الخلق الطعام، وحذف ليدل على التعميم إشارة إلى أن إطعام الطعام غير مختص بأحد، سواء كان المطعم مسلما أو كافرا أو حيوانا، ونفس الإطعام أيضا سواء كان فرضا أو سنة أو مستحبا.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: لم قال: وتقرأ السلام، ولم يقل: وتسلم. أجيب بأنه يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمن بالسلام.

                                                                                                                                                                                  قال أبو حاتم السجستاني: تقول: اقرأ عليه السلام، وأقرئه الكتاب، ولا تقول: أقرئوه السلام إلا في لغة إلا أن يكون مكتوبا، فتقول: أقرئه السلام، أي: اجعله يقرؤه، وفيه إشارة أيضا إلى أن تحية المسلمين بلفظ السلام، وزيدت لفظة القراءة تنبيها على تخصيص هذه اللفظة في التحيات مخالفة لتحايا أهل الجاهلية بألفاظ، وضعوها لذلك.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: لم خص هاتين الخصلتين في هذا الحديث؟ وأجيب [ ص: 139 ] بأن المكارم لها نوعان: أحدهما: مالية، أشار إليها بقوله: " تطعم الطعام "، والآخر: بدنية، أشار إليها بقوله: " وتقرأ السلام ". ويقال: وجه تخصيص هاتين الخصلتين وهو مساس الحاجة إليهما في ذلك الوقت لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدل على ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حث عليهما أول ما دخل المدينة. كما رواه الترمذي مصححا من حديث عبد الله بن سلام ، قال: " أول ما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأملت وجهه، واشتبهته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: جعل صلى الله عليه وسلم أفضلها إطعام الطعام الذي هو قوام الأبدان، ثم جعل خير الأقوال في البر والإكرام إفشاء السلام الذي يعم ولا يخص من عرف ومن لم يعرف حتى يكون خالصا لله تعالى، بريئا من حظ النفس، والتصنع; لأنه شعار الإسلام، فحق كل مسلم فيه شائع. ورد في حديث: " إن السلام في آخر الزمان للمعرفة يكون ".

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قيل: جاء في الجواب هاهنا أن الخير أن تطعم الطعام، وفي الحديث الذي قبله أنه من سلم المسلمون فما وجه التوفيق بينهما، أجيب بأن الجوابين كانا في وقتين فأجاب في كل وقت بما هو الأفضل في حق السامع أو أهل المجلس، فقد يكون ظهر من أحدهما قلة المراعاة ليده، ولسانه، وإيذاء المسلمين، ومن الثاني: إمساك من الطعام، وتكبر فأجابهما على حسب حالهما، أو علم صلى الله عليه وسلم أن السائل الأول يسأل عن أفضل التروك، والثاني عن خير الأفعال، أو أن الأول يسأل عما يدفع المضار، والثاني عما يجلب المسار، أو أنهما بالحقيقة متلازمان إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان. قلت: ينبغي أن يقيد هذا بالغالب أو في العادة فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية