الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن

              كما لا يجوز أن يقال : اجمع بين الحركة والسكون .

              لا يجوز أن يقال : لا تتحرك ولا تسكن ; لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما . فإن قيل : فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج ، إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما . قلنا : حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال ; كما لا يؤمر بجمعهما . فإن قيل : فما يقال له ؟ قلنا : يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ، ولكن يقال له : انزع على قصد التوبة لا على قصد الالتذاذ ، فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر وفي المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة ، وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ; ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز .

              فإن قيل : فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج ؟ قلنا : الضمان لا يستدعي العدوان ، إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ، ويجب على الصبي وعلى من رمي إلى صف الكفار وهو مطيع به . فإن قيل : فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب ، وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ولم عصى به ؟ قلنا : عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد ، والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل ، وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان ، فالقضاء كالضمان .

              فإن قيل : فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله ؟ قلنا : وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن ، فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصي بالصلاة قاعدا وإنما يعصي بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما ، وقول القائل ينسحب [ ص: 72 ] عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال ، والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه ، فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا ؟ ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا ، لقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . فإن قيل : فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر ، فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل ؟ قلنا : يحتمل أن يقال : امكث ، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر ، وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة .

              ويحتمل أن يقال : يتخير ، إذ لا ترجيح . ويحتمل أن يقال : لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء ; لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ، ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه ، فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ، ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل ، وأما تكليف المحال فمحال .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية