الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب بيع العرية .

اختلف الفقهاء في معنى العرية والرخصة التي أتت فيها في السنة .

فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي أن العرية في مذهب مالك هي : أن يهب الرجل ثمرة نخلة ، أو نخلات من حائطه لرجل بعينه ، فيجوز للمعرى شراؤها من المعري له بخرصها تمرا على شروط أربعة :

أحدها : أن تزهي .

والثاني : أن تكون خمسة أوسق فما دون ، فإن زادت فلا يجوز .

والثالث : أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجذاذ ، فإن أعطاه نقدا لم يجز .

والرابع : أن يكون التمر من صنف تمر العرية ، ونوعها . فعلى مذهب مالك الرخصة في العرية إنما هي في حق المعري فقط ، والرخصة فيها إنما هي استثناؤها من المزابنة ، وهي بيع الرطب بالتمر الجاف الذي ورد النهي عنه ، ومن صنفي الربا أيضا ( أعني : التفاضل والنساء ) ، وذلك أن بيع ثمر معلوم الكيل بثمر معلوم بالتخمين - وهو الخرص - فيدخله بيع الجنس الواحد متفاضلا ، وهو أيضا ثمر بثمر إلى أجل ، فهذا هو مذهب مالك فيما هي العرية ، وما هي الرخصة فيها ، ولمن الرخصة فيها ؟

وأما الشافعي : فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمعري خاصة ، وإنما هي لكل أحد من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من التمر ( أعني : الخمسة أوسق أو ما دون ذلك ) بتمر مثلها; وروي أن الرخصة فيها إنما هي معلقة بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رطبا ، وذلك لمن ليس عنده رطب ، ولا تمر ( هكذا بالنسخ ، ولعله : وعنده تمر يشتري ، إذ هي فسحة لمن عنده تمر ، وليس عنده رطب أن يشتري الرطب بالتمر ، ولذلك اشترط الشافعي دفع التمر نقدا ، فتأمل اهـ مصححه ) ، يشتري به الرطب . والشافعي يشترط في إعطاء التمر الذي تباع في العرية أن يكون نقدا ، ويقول : إن تفرقا قبل القبض فسد البيع .

والعرية جائزة عند مالك في كل ما ييبس ويدخر ، وهي عند الشافعي في التمر والعنب فقط ، ولا خلاف في جوازها فيما دون الخمسة الأوسق عند مالك ، والشافعي ، وعنهما الخلاف إذا كانت خمسة أوسق ، فروي الجواز عنهما والمنع ، والأشهر عند مالك الجواز .

فالشافعي يخالف مالكا في العرية في أربعة مواضع :

[ ص: 573 ] أحدها : في سبب الرخصة كما قلنا .

والثاني : أن العرية التي رخص فيها ليست هبة ، وإنما سميت هبة على التجوز .

والثالث : في اشتراط النقد عند البيع .

والرابع : في محلها . فهي عنده كما قلنا في التمر والعنب فقط ، وعند مالك في كل ما يدخر وييبس .

وأما أحمد بن حنبل : فيوافق مالكا في أن العرية عنده هي الهبة ، ويخالفه في أن الرخصة إنما هي عنده فيها للموهوب له ( أعني : المعرى له لا المعري ) ، وذلك أنه يرى أن له أن يبيعها ممن شاء بهذه الصفة لا من المعري خاصة كما ذهب إليه مالك .

وأما أبو حنيفة : فيوافق مالكا في أن العرية هي الهبة ، ويخالفه في صفة الرخصة ، وذلك أن الرخصة عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المزابنة ولا هي في الجملة في البيع ، وإنما الرخصة فيها عنده من باب رجوع الواهب في هبته; إذ كان الموهوب له لم يقبضها ، وليست عنده ببيع ، وإنما هي رجوع في الهبة على صفة مخصوصة ، وهو أن يعطي بدلها تمرا بخرصها .

وعمدة مذهب مالك في العرية أنها بالصفة التي ذكر : سنتها المشهورة عندهم بالمدينة ، قالوا : وأصل هذا أن الرجل كان يهب النخلات من حائطه ، فيشق عليه دخول الموهوب له عليه ، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرا عند الجذاذ . ومن الحجة له في أن الرخصة إنما هي للمعري : حديث سهل بن أبي حثمة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا " . قالوا : فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها; لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها . ويمكن أن يقال : إن أهلها هم الذين اشتروها كائنا من كان ، لكن قوله رطبا هو تعليل لا يناسب المعري ، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب ، وهم الذين ليس عندهم رطب ولا تمر يشترونها به ، ولذلك كانت الحجة للشافعي .

وأما أن العرية عنده هي الهبة فالدليل على ذلك من اللغة ، فإن أهل اللغة قالوا : العرية هي الهبة ، واختلف في تسميتها بذلك ، فقيل : لأنها عريت من الثمن ، وقيل : إنها مأخوذة من عروت الرجل أعروه إذا سألته ، ومنه قوله تعالى : ( وأطعموا القانع والمعتر ) .

وإنما اشترط مالك نقد الثمن عند الجذاذ ( أعني : تأخيره إلى ذلك الوقت ) ; لأنه تمر ورد الشرع بخرصه ، فكان من سنته أن يتأجل إلى الجذاذ ، أصله الزكاة ، وفيه ضعف; لأنه مصادمة بالقياس لأصل السنة . وعنده أنه إذا تطوع بعد تمام العقد بتعجيل التمر جاز .

وأما اشتراطه جوازها في الخمسة الأوسق ، أو فيما دونها : فلما رواه عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق ، أو في خمسة أوسق " . وإنما كان عن مالك في الخمسة الأوسق روايتان الشك الواقع في هذا الحديث من الراوي .

وأما اشتراطه أن يكون من ذلك الصنف بعينه إذا يبس ، فلما روي عن زيد بن ثابت : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا " ، خرجه مسلم .

وأما الشافعي : فعمدته حديث رافع بن خديج ، وسهل بن أبي حثمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن المزابنة [ ص: 574 ] التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا ، فإنه أذن لهم فيه . وقوله : " فيها يأكلها أهلها رطبا " . والعرية عندهم هي اسم لما دون الخمسة الأوسق من التمر ، وذلك أنه لما كان العرف عندهم أن يهب الرجل في الغالب من نخلاته هذا القدر فما دونه ، خص هذا القدر الذي جاءت فيه الرخصة باسم الهبة لموافقته في القدر للهبة ، وقد احتج لمذهبه بما رواه بإسناد منقطع عن محمود بن لبيد أنه قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما زيد بن ثابت ، وإما غيره : ما عراياكم هذه ؟ قال : فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب أتى وليس بأيديهم نقد يبتاعون به الرطب فيأكلونه مع الناس ، وعندهم فضل من قوتهم من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم يأكلونها رطبا ، وإنما لم يجز تأخير نقد التمر; لأنه بيع الطعام بالطعام نسيئة .

وأما أحمد : فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره .

وأما أبو حنيفة : فلما لم يجز عنده المزابنة ، وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع ، وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب بإعطاء خرصها تمرا ، أو تسميته إياها بيعا عنده مجازا ، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه ، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشيء من الأشياء سوى الخرص ، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك . وقد قيل : إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث ، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع منها أنه لم يسمها بيعا ، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا .

ومنها : أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ، ورخص في العرايا ، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة; لأن المزابنة هي في البيع . والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع ، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع ، وهي المزابنة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية