الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3708 3923 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي. وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي، حدثنا الزهري قال: حدثني عطاء بن يزيد الليثي قال: حدثني أبو سعيد- رضي الله عنه- قال: جاء أعرابي إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الهجرة فقال: " ويحك، إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟". قال: نعم. قال "فتعطي صدقتها". قال: نعم. قال: "فهل تمنح منها؟". قال: نعم. قال: "فتحلبها يوم ورودها؟". قال: نعم. قال: "فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا". [انظر: 1452- مسلم: 1865- فتح: 7 \ 257]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الله بن زيد وأبي هريرة سلفا في باب: لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. وحديث أبي موسى سلف قريبا في باب هجرة الحبشة، و"وهلي": وهمي.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فإذا هي يثرب") خاطبهم بما عقلوا حينئذ ولا ينبغي أن تسمى اليوم بذلك، وقد قيل: من قاله وهو عالم كتبت عليه خطيئة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري (أحد عشر) حديثا:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 534 ] أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث خباب- رضي الله عنه-: هاجرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نريد وجه الله.. الحديث، سلف في الكفن من الجنائز.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (أينعت له ثمرته): أدركت ونضجت يقال: ينع الثمر وأينع يينع ويونع فهو يانع ومونع، وقال الفراء: ينع أكثر من أينع، و(يهدبها) بكسر الدال وضمها: يجتنيها ويقطفها.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أن الكفن من رأس المال كما سلف هناك، والنمرة: كساء ملون أي: مخطط أو بردة يلبسها الإمام، والجمع: نمرات ونمار.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "إنما الأعمال بالنية" سلف في أول الكتاب وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (لا هجرة بعد الفتح) هذا قد سلف مرفوعا مع تأويله، وشيخه فيه إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الدمشقي الفراديسي، مولى عمر بن عبد العزيز مات سنة سبع وعشرين ومائتين. رواه عن يحيى بن حمزة قاضي دمشق مات سنة ثلاث وثمانين ومائة، عن الأوزاعي واسمه: عبد الرحمن بن عمرو مات سنة سبع وخمسين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 535 ] الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لا هجرة اليوم..) إلى آخره. والفتنة فيه: الكفر، وكان المقام بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يمنع الخروج كما قاله ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (وأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام); لأن مكة صارت بعد الفتح دار إيمان.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديثها أيضا أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم. وقال أبان بن يزيد: ثنا هشام، عن أبيه، أخبرتني عائشة: من قوم كذبوا نبيك وأخرجوه من قريش.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: قوله (من قوم كذبوا رسولك)، يعني: بني قريظة، وكانوا يهود أشد الناس عداوة للمؤمنين كما وصفهم الله.

                                                                                                                                                                                                                              دعاء سعد لا يميته الله حتى تقر عينه بهلاكهم، فأستجيب له، وكان جرح في أكحله بنبل، فنزلوا على حكمه فحكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية كما سلف في ترجمته، ثم انفجر أكحله فمات.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقوله ثانيا: (من قريش) ليس بمحفوظ.

                                                                                                                                                                                                                              وظاهر القول جميعا أنهم من قريش; لأنه قال: (وأخرجوه) ولم يخرجه بنو قريظة، فدعا هنا على قريش، ودعا على قريظة في موضع آخر، وقوله: (وقال أبان ..) إلى آخره. قال في موضع آخر:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 536 ] حدثنا زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن نمير، عن هشام مطولا بلفظ: فإن كان من حرب قريش شيء فأبقني حتى أجاهدهم فيك.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث هشام - هو ابن حسان- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ثم مات وهو ابن ثلاث وستين.

                                                                                                                                                                                                                              سلف في المبعث.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساقه عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاث عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين.

                                                                                                                                                                                                                              وروى مالك في "موطئه" أنه أقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا وتوفي وهو ابن ستين، وروي عن ابن عباس أنه توفي ابن خمس وستين، وقيل: ابن اثنتين وستين.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي سعيد الخدري السالف في فضائل أبي بكر- رضي الله عنه- وجلوسه على المنبر لضعفه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: خير الله نبيه وهو أعلم بما يسره الله إليه كما سبق في علمه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: مدح المرء بحضرته إذا أمن عليه الفتنة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 537 ] وقوله: ("إلا خلة الإسلام") كذا هنا، وقال هناك: "إلا أخوة الإسلام". قال الداودي: وهو المحفوظ; لأنه نفى الخلة، وأنكر القزاز (خوة الإسلام) بحذف الألف، وقيل: إنه نفى الخلة المختصة فالإنسان مفردا وأوجب الخلة العامة، التي هي الإسلام في سائر الناس.

                                                                                                                                                                                                                              والخوخة: باب صغير وكان بعض الصحابة فتحوا أبوابا في ديارهم إلى المسجد، فأمر الشارع بسدها إلا خوخة الصديق; ليتميز بذلك فضله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: إيماء إلى الخلافة كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة رضي الله عنها: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين.

                                                                                                                                                                                                                              فذكر حديث الهجرة بطوله وقد سلف قطعة منه في الكفالة في باب: جوار أبي بكر.

                                                                                                                                                                                                                              معنى (يدينان الدين) تعني: مسلمين، وولدت عائشة رضي الله عنها في الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                              و(برك الغماد): موضع في أقاصي هجر، والأكثر فتح الباء، ومنهم من كسرها. قاله القاضي عياض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 538 ] و(الغماد): بكسر الغين، وهو عند ابن فارس بضمها قال: وهو أرض.

                                                                                                                                                                                                                              و(الدغنة): بفتح الدال وكسر الغين، وضم الدال والغين وتشديد النون.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني: رويناه بهما ويقال: بفتح الدال وسكون الغين. وقوله: (إنك تكسب المعدوم) أي: تعطيه المال، وتملكه إياه، يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: وأفصح اللغتين حذف الألف، ومنع القزاز إثباتها وجوزها ابن الأعرابي، وقد سلف إيضاح ذلك في أول الكتاب في حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي. قال ابن فارس: وهذا الفعل مما جاء على فعل يفعل.

                                                                                                                                                                                                                              و(المعدوم) في حديث عائشة في بدء الوحي أي: المعدوم منه. و(تصل الرحم) أي: لا تمنع قرابتك من خيرك. و(تحمل الكل): أي: المنقطع به، أو العيال أو اليتيم، أو الثقل من كل ما يتكلف، (وتقري الضيف) تأتيه بالقرى وهو ما نأثره به، وقيل: لجمعه إليك من قريت الماء في الحوض إذا جمعته.

                                                                                                                                                                                                                              (وتعين على نوائب الحق) أي: تعين بما تقدر عليه من أصابته

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 539 ] نوائب. وقوله: (فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة) أي: لم ترده، وكل من كذب في شيء فقد رده.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فيقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم) أي: يتدافعون عند ازدحامهم عليه، وفي رواية: فيتقصف. قال الخطابي: وهو المحفوظ أي: يزدحم، والأول تصحيف، قال: وأصل القصف الكسر، وأما ينقذف فلا وجه له إلا أن يجعل من القذف، وهو الدفع، فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه، قال: وفي هذا بعد.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: بل البعد التصحيف لبعد ما بين الدال والصاد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قد كرهنا أن نخفرك) أي: ننقض عهدك - بضم النون- يقال: أخفرت إذا نقضت العهد، وخفرت إذا وفيت به.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (على رسلك) هو بكسر الراء أي: أمهل لا تعجل; لأن الرسل بالفتح: الهينة، وبالكسر: التؤدة والحفظ.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ورق السمر، وهو الخبط) قال ابن فارس: يقال: خبط الورق من الشجرة، فإذا سقط فهو خبط.

                                                                                                                                                                                                                              و(نحر الظهيرة): اشتداد الحر، وقال الداودي: هو أول ما يفيء الفيء. (متقنعا) أي: متغطيا و(أحث الجهاز): أسرعه، والسفرة من الجلد إما بزود أو غيره (يصنع) فيه الطعام.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 540 ] و(الجراب) بكسر الجيم، وربما فتح، و(النطاق): إزار به تكة تلبسه النساء، والمنطق: كل شيء شددت به وسطك، قاله ابن فارس.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: هو مئزر، والمنطق: الحقوة، وقال الهروي: النطاق: المنطق، وهو أن تأخذ المرأة ثوبا فتلبسه ثم تشد إزارها وسطها بحبل، ثم ترسل الأعلى على الأسفل قال: وبه سميت أسماء ذات النطاقين; لأنها كانت تطارق نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في الغار.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وهو غلام شاب ثقف لقن). قال الخطابي: الثقافة حسن التلقي (للأدب) يقال: غلام ثقف، واللقن: الحسن التلقي لما يسمعه ويعلمه، وقال ابن فارس: ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه، ورجل ثقف، وقال: اللقن: السريع الفهم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فيدلج من عندهما بسحر) أي: يسير سحرا من عندهما إلى مكة. يقال: أدلج: سار سحرا، وادلج (رباعيا) إذا سار الليل كله، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه) هو افتعال من الكيد، وفي رواية غير الشيخ أبي الحسن (يكتادان به) قال ابن التين: وهو أبين; لأن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 541 ] كاد لا يتعدى إلى مفعولين، وإن قيل: (يكادان به) بالياء فتسقط النون بعد عامل. قلت: وعليه اقتصر الخطابي حيث قال: (يكتادان به) هو من الكيد، أخرجه على وجه الافتعال.

                                                                                                                                                                                                                              والمنحة: الشاة ذات اللبن يمنحها الرجل صاحبه يشرب لبنها، وترد رقبتها قال ابن فارس: والمنحة والمنيحة منحة اللبن، والمنحة الناقة أو الشاة يعطي لبنها، وقيل: هذا أصل المنحة ثم جعلت كل عطية منحة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فيبيتان في رسل) هو بكسر الراء: اللبن، ولذلك قال: (وهو لبن منحتهما ورضيفهما).

                                                                                                                                                                                                                              والرضيف: أن تحمى الحجارة فتلقى في اللبن الحليب فتذهب وخامته وثقله، والجمع رضف، وشواء مرضوف أي: مشوي على الرضف، وقيل: هو اللبن يحسى به السقاء يعني خاثرا ثم يصب في القدح، وقد سخنت له الرضافة فتوضع الرضفة المحماة فتكسر من برده، وروي: صريفها، والصريف اللبن ساعة يحلب

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (حتى ينعق بها عامر بن فهيرة) أي: يصيح، و(الغلس): ظلام آخر الليل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (واستأجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلا من بني الديل) هو عبد الله بن أريقط، وكان كافرا، وقال موسى بن عقبة: أريقط وقيل: عبد الله بن أريقد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 542 ] قوله: (والخريت الماهر بالهداية) قيل: هو مأخوذ من خرات الإبرة، كأنه يهتدي بمثل خرتها ذكره الخطابي، وقال ابن فارس: سمي بذلك لشقه المفازة، وحكى الكسائي خرتنا الأرض: إذا عرفناها، ولم تخف علينا طرقها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في الرجل من بني الديل: (وهو من بني عبد بن عدي)، ثم قال: (قد غمس حلفا في آل العاصي ابن وائل السهمي) وفي رواية: غمس يمين حلف، يريد أنه كان حليفا لهم، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيديهم في دم أو خلوق أو نحوهما من شيء فيه تلوين فيكون تأكيدا للحلف.

                                                                                                                                                                                                                              والحلف: بفتح الحاء وكسر اللام مصدر حلفت، وتسكين اللام: العهد بين القوم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فأمناه) أي: ائتمناه كقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا [البقرة: 283]

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (رأيت آنفا أسودة) أي: شخوصا. والأكمة: الكدية.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في فرسه: (فرفعتها تقرب) من التقريب ودون الحضر، وفوق سير العادة. قال ابن فارس: وهما تقريبان أدنى وأعلى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ساخت يدا فرسي في الأرض) يعني: دخلت كما يدخل في الماء والطين والتراب غير أن الأرض عليها شديدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فلم يرزآني) أي: لم يأخذا مني شيئا، ولم ينقصاه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 543 ] وقوله: (فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم) وجاء أن أبا بكر كتب له في عظم فلقيه به قوم يوم فتح مكة بالجعرانة.

                                                                                                                                                                                                                              و(الركب): جمع راكب كتاجر وتجر، (وقافلين): راجعين. وما ذكره ابن شهاب عن عروة بن الزبير من أنه لقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في طريق الهجرة وأنه كساه وكسا الصديق ثياب بياض، غريب.

                                                                                                                                                                                                                              قال الدمياطي: لم يذكره الزبير بن بكار ولا أهل السير، وإنما هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن سعد: لما ارتحل النبي- صلى الله عليه وسلم- من الخرار في هجرته إلى المدينة لقيه طلحة بن عبيد الله من الغد جاء من الشام فكسا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر من ثياب الشام، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن [من] بالمدينة من المسلمين استبطئوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (أوفى رجل من يهود على أطم) أي: قام في أعلاه، والأطم: الحصن، وقيل: هو بناء معمول من حجارة كالقصر.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (مبيضين) أي: مبيضة ثيابهم، ويحتمل أن يريد مستعجلين. قال ابن فارس: حمس بائض: مستعجل، ويدل عليه قولهم: (يزول بهم السراب) ويحتمل أن يريد في وقت الهاجرة، وشدة الحر، وقد ضبط بتشديد الضاد.

                                                                                                                                                                                                                              و(السراب) أن يرى من شدة الحر شيئا كالماء فإذا جئته لم تلق شيئا كما قال تعالى: يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [النور: 39].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (هذا جدكم) أي: حظكم ودولتكم التي تتوقعون مجيئه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 544 ] وقوله: (فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر) سببه أن أبا بكر كان يسافر إلى الشام فعرف بالمدينة ولم يأتها النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد أن كبر فيعرفه أهلها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (فلبث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة) قيل: نزل على كلثوم بن الهدم أو سعد بن خيثمة، وقيل: أقام فيهم ثلاث ليال، حكاه الشيخ أبو محمد ولا خلاف أنه نزل بالمدينة على أبي أيوب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (وأسس المسجد الذي أسس على التقوى) هذا صريح أنه مسجده، وقد اختلف في ذلك في زمانه، وقال: إنه رواية أبي سعيد الخدري، وقيل: إنه مسجد قباء، والأول أثبت، وقال الداودي: إنه ليس باختلاف كلاهما أسس على التقوى.

                                                                                                                                                                                                                              (المربد): الموضع الذي يجفف فيه التمر، ويسميه أهل العراق: البندر، وأهل الشام: الأندر، وأهل البصرة: الخوخان، وأهل مصر: الجرين، وبعض أهل اليمامة: المسطح.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هدية حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا) وسلف في أحكام المساجد من حديث أنس فأرسل إلى ملإ بني النجار فقال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم" قالوا: لا والله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 545 ] لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. لا منافاة بينهما فقد يكلمهما ويستشفع بالملإ، ويتحمله الملأ إن كان الغلامين تحت الحجر.

                                                                                                                                                                                                                              و(اللبن) من الطين. يقال: بفتح اللام وكسر الباء، وكسر اللام وإسكان الباء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي) هو عبد الله بن رواحة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات). أنكر عليه هذا من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنه رجز وليس بشعر، ولا يطلق على الرجز شعر. قالوا: وإنما هو كالكلام المسجع بدليل أنه يقال لصاحبه: راجز، ويقال: أنشد رجزا، لا شعرا.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: أنه ليس برجز ولا موزون.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف هل يحكي الشاعر الشعر وعلى القول بنفي الحكاية عنه، اختلف هل يحكي بيتا واحدا، فقال قوم: لا يتمه إلا شعرا، وقال آخرون: ليس البيت الواحد شعرا. وفيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله:


                                                                                                                                                                                                                              (هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر)



                                                                                                                                                                                                                              أي: هذا الحمل والمحمول من اللبن أبر عند الله وأطهر أي: أنقى ذخرا، وأدوم منفعة (لا حمال خيبر) من التمر والزبيب والطعام المحمول

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 546 ] منها الذي يتغبط به حاملوه والذي كنا نحمله ونتغبط به، والحمال والحمل واحد، وقد رواه المستملي بالجيم ضما وله وجه، والأول أظهر.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث التاسع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أسماء رضي الله عنها صنعت سفرة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر حين أرادا المدينة، فقلت لأبي: ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي. قال: فشقيه. ففعلت، فسميت ذات النطاقين.

                                                                                                                                                                                                                              قد سلف ذلك في الحديث قبله واضحا.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث البراء- رضي الله عنه-: لما أقبل النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة تبعه سراقة.. الحديث، وقد سلف في حديث الهجرة قبله، وزاد هنا: فعطش النبي- صلى الله عليه وسلم- فمر براع، قال أبو بكر: فأخذت قدحا فحلبت فيه كثبة لبن، فأتيته فشرب حتى رضيت. وقد سلف الجواب عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث زكريا بن يحيى، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير، قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة، فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه هو ريق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                              تابعه خالد بن مخلد، عن علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء أنها هاجرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي حبلى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 547 ] ثم ساق الثاني عشر:

                                                                                                                                                                                                                              عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، فذكرت تحنيكه.

                                                                                                                                                                                                                              وشيخ البخاري (زكريا) من أفراده، وهو أبو يحيى، زكريا بن يحيى بن صالح بن سليمان بن مطر اللؤلؤي البلخي الحافظ الفقيه إمام مصنف، مات سنة اثنتين وثمانين ومائتين حكاه الكلاباذي وقال غيره: سنة ثلاثين.

                                                                                                                                                                                                                              وخالد بن مخلد هو القطواني الكوفي من رجال مسلم أيضا كنيته أبو الهيثم، نسب إلى التشيع، وقال أحمد وغيره له مناكير. مات سنة ثلاث عشرة ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              وشيخ خالد علي بن مسهر، أبو الحسن، قاضي الموصل الجرمكي الكوفي الحافظ المحدث الفقيه أخو عبد الرحمن مات سنة تسع وثمانين ومائة. ومتابعة خالد أخرجها الإسماعيلي من حديث سويد بن سعيد، ثنا أبو مسهر، عن هشام، ومن حديث عثمان ثنا خالد به.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (متم) حانت ولادتها قاله الداودي، وفي "الصحاح" مثله، قال ابن فارس: امرأة حبلى متم، وولدت لتمام.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (وكان أول مولود ولد في الإسلام) أي: بالمدينة من المهاجرين. قال الداودي: المشهور أنها ولدته لسنة ونصف من

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 548 ] الهجرة; لأنهم لما قدموا المدينة تأخرت ولادة نسائهم حتى خافوا أن يكون اليهود سحرتهم، فلما ولد عبد الله فرح المسلمون ثم ولد بعده في ذلك العام النعمان بن بشير ولد للانصار بعدها. والمشهور في قباء المد والقصر.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (تفل في فيه) من ريقه، وهو بالتاء: المجة بثنتين. والتحنيك: أن يمضغ التمرة ثم يدلكها بحنك الصبي، يقال: حنكه وحنكته فالصبي محنك ومحنوك.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (برك عليه): دعا له بالثبات على الخير والدوام ومنه: تبارك الله أي: ثبت الخير عنده في [...] ومنه سميت بركة الماء بركة لإقامة الماء فيها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فلاكها، ثم أدخلها في فيه). ظاهره أن اللوك كان قبل أن يدخلها في فيه، والذي عن أهل اللغة أن التلوك في الفم كما نبه عليه ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث (الثاني عشر) :

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس- رضي الله عنه- قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مردف أبا بكر.. الحديث بطوله في الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: يحتمل أن يردفه على الراحلة التي هو عليها أو على

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 549 ] راحلة أخرى وراءه قال تعالى بألف من الملائكة مردفين [الأنفال: 9] أي: يتلو بعضهم بعضا، والتأويل هو الأول، ولا يصح الثاني كما نبه عليه ابن التين; لأن الردف على قول الداودي يكون خلف، ولا يصح أن يكون أبو بكر يمشي بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وذلك لأن في الحديث: (يلقى الرجل أبا بكر فيقول له: من هذا؟) وكان ذلك في انتقالهم من بني عمرو بن عوف، والحديث نص في أنه كان في مسيرهم إلى المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              قال غيره: وكان ركوبهم من بني عمرو يوم الجمعة، فمر ببني سالم فصلى فيهم الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وأبو بكر شيخ والنبي- صلى الله عليه وسلم- شاب) كان أبو بكر أسرع الشيب إليه بخلاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-; لأنه مات وليس في لحيته ورأسه عشرون شعرة بيضاء; وأبو بكر كان (أسن) منه; لأنه مات بعده بسنتين ونيف، وماتا وعمرهما واحد. قال مالك: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر أبناء ستين سنة، وقيل: ثلاث وستين، وقيل في عمر عمر: ابن خمس وخمسين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فصرعه الفرس- وفي رواية: (فرسه)- ثم قامت تحمحم)

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 550 ] قال ابن التين: فيه نظر; لأنه لا يخلو أن يكون الفرس أنثى فلا يجوز: فصرعه. وإنما يجوز: فصرعته، أو يكون يعني ذكرا فلا تقول: قامت تحمحم، وإنما يجوز: قام يحمحم، وتحمحم: يصيح صياحة إذا رأى العلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وكان آخر النهار مسلحة له) أي: يدفع عنه الأذى. وقوله: (وحفوا دونهما بالسلاح) قال تعالى: وترى الملائكة حافين من حول العرش [الزمر: 75] أي: محدقين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم) أي: يجتني لهم الثمار.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("فهيئ لنا مقيلا") أي: مكانا نقيل فيه. والمقيل: النوم نصف النهار، وقال الأزهري: القيلولة والمقيل: الاستراحة نصف النهار كان معها نوم أم لا بدليل قوله تعالى وأحسن مقيلا [الفرقان: 24] والجنة لا نوم فيها: يقال: قلت، أقيل، قيلولة، وقائلة، ومقيلا.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: "فهيئ لنا مقيلا": يعني دار أبي أيوب. و(سلام) مخفف اللام.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال: كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 551 ] اعترض ابن التين حيث قال: رواه نافع عن (عمر) : فإن يكن أدركه، أو هو وهم في النقل، أو هو حديث مرسل.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: نافع إنما رواه عن ابن عمر عن عمر فزال الإشكال، فلعل نسخة وقعت له كذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (أربع آلاف في أربعة) قيل: معناه أربعة آلاف وأربعة آلاف. وقيل: معناه في أربعة أعوام. قال سعيد بن المسيب: المهاجرون الأولون هم الذين صلوا القبلتين، هم السابقون، ثم سائر من هاجر قبل الفتح، وفرض عمر- رضي الله عنه- لحسن وحسين وأسامة كما فرض لهؤلاء، وإنما نقص ابنه لقرابته منه; لأنه من بني عدي ويضاهى به قاله الداودي. وقيل: كان نائبا وأتى أبو بكر بمال كان فيه سيوف، وكان فيه سيف محلى فقال له ابنه عبد الرحمن: أعطنيه، فناوله إياه أبو بكر، فبادر عمر فقال: أنا آخذه فأعطاه إياه فنزع حليته، فردها في المال، وأعطى النصل لعبد الرحمن، وقال: لم أنفسك في السيف إنما خشيت أن يتقول الناس على أبيك. وقال المسور لعبد الرحمن صبيحة بايع لعثمان قبل أن يبايعه: إنك لها لأهل، فقال: أنا آتي بعد عمر! لقد أتعب من بعده.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إنما هاجر به أبواه) يعني: أنه كان في عيال أبيه، وكان عمره حينئذ ثنتي عشرة (سنة وأشهرا).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 552 ] الحديث الرابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث خباب تقدم قريبا، وفي الجنائز أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: قلت: لا. قال: فإن أبي قال لأبيك.. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              قاله له إشفاقا وقد كانت أعمالهم حسنة زكية، ولم ينالوا فوق الكفاف، وكان عمر- رضي الله عنه- من أزهد الناس; لأنه قدر فترك.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فقال أبي: لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافا رأسا برأس) يقال: برد الشيء إذا ثبت، وبرد لي على الغريم حق إذا وجب، ويقال: ما برد ذلك على فلان فهو علي.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي عثمان قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما إذا قيل له: هاجر قبل أبيه. يغضب.. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              سبب غضبه; لئلا يرفع فوق قدره، ولئلا ينافس والده.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (فوجدناه قائلا) أي: في قائلة نصف النهار، وذلك حين قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مهاجرا، قاله الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (فدخلت فبايعته ثم انطلقت إلى عمر) إنما بايع قبله; تنافسا في الخير; لأن تأخير ذلك لا ينفع عمر فنقص حظ نفسه بغير نفع أخيه، قاله الداودي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 553 ] قال ابن التين: وفيه تجوز; لأنه كان ينفع عمر لو فعل باستعجال بيعته بمقدار تأخره في بيعته إلا أنها منفعة يسيرة، ومنفعة ابن عمر كثيرة. وقوله (نهرول) الهرولة بين المشي والعدو، ففيه المسارعة إلى الخير.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث البراء قال: ابتاع أبو بكر من عازب رحلا.. الحديث. سلف في باب: علامات النبوة، وزاد هنا: قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابها حمى فرأيت أباها يقبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟

                                                                                                                                                                                                                              قوله (قد روأتها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-) يقال: روأت في الأمر وبه إذا نظرت فيه ولم تعجل بجواب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (كثبة من لبن) كذا هي بالثاء المثلثة، وكذا سلف هناك، وقد أسلفنا عن الخطابي (كثفة) بالفاء، وأنه غلط، والكثيف ضد القليل، وضبطه في بعض النسخ: كنفة بالنون والكنف: الوعاء.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عقبة بن وساج عن أنس- رضي الله عنه-: قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر، فغلفها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال دحيم: ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي قال: حدثني أبو عبيد عن عقبة به ولفظه: فكان أسن أصحابه أبو بكر، فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 554 ] هذا تابعي من أفراد البخاري، وثقه أبو داود، قتل سنة اثنتين وثمانين.

                                                                                                                                                                                                                              و(أبو عبيد) حي-وقيل: حوي- حاجب سليمان بن عبد الملك المذحجي روى عن أنس أيضا وثقه مالك.

                                                                                                                                                                                                                              والأشمط: الذي يخالط شعره سواد وبياض، رجل أشمط وامرأة شمطاء.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله (فغلفها) يعني: لحيته دل على ذلك قوله: (أشمط) ومعنى غلفها: خضبها وكل شيء ستر شيئا فهو غلاف له، وغلفها مشدد اللام يقال: غلفت لحيته ويغلفها، ومنه تغلفت السكين: جعلت لها غلافا، وكذلك إذا أدخلتها في الغلاف. (وقنأ لونها) اشتدت حمرته حتى ضرب إلى السواد. يقال: قنأ يقنؤ قنوءا: احمر، يقال: أحمر قان، وأبيض ناصع، وأصفر فاقع.

                                                                                                                                                                                                                              و(الحناء): جمع حناءة ممدود، وأصله الهمز، يقال: حنأت لحيته بها، وبها سمي الرجل حناة، وهو شجر كبار مثل شجر السدر، وهو يرزق في كل عام مرتين.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم أبو زيد السهيلي أنه يجمع على حنان-بضم الحاء وتشديد النون- على غير قياس، وأنشد فيه شعرا، قال: وهو عندي لغة في الحناء لا جمع له، وقال في "المحكم": الحنان بكسر الحاء لغة في الحناء عن ثعلب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 555 ] وفي "المعجم" للطبراني أنه- صلى الله عليه وسلم- سماه طيبا، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، فلا يجوزونه للمحرم، وخالفوه.

                                                                                                                                                                                                                              و(الكتم): ورق يخضب به، وقيل: إنه يلطخ مع الوسمة، وقيل: إنه الوسمة، وأطال بعضهم في وصفه وهو بالتخفيف خلافا لأبي عبيدة حيث شدده. ذكره في "ديوان الأدب"، وفيه جواز الصبغ، وقد سلف ذكره، ويشبه أن يريد استعمال الكتم مجردا عن الحناء، فإن الحناء إذا غسل بالكتم جاء أسود، وعلى قول من كره تغيير الشيب بالسواد لا يجوز، وذكر بعضهم أنه حناء قريش يعني الذي صبغه أصفر. وقال بعضهم: هو النيل.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث التاسع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر- رضي الله عنه- تزوج امرأة من كلب يقال لها: أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها، فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر الذي قال هذه القصيدة، ورثى بها كفار قريش:


                                                                                                                                                                                                                              وماذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تزين بالسنام
                                                                                                                                                                                                                              وماذا بالقليب قليب بدر من القينات والشرب الكرام
                                                                                                                                                                                                                              تحيي بالسلامة أم بكر فهل لي بعد قومي من سلام
                                                                                                                                                                                                                              يحدثنا الرسول بأن سنحيا وكيف حياة أصداء وهام



                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 556 ] هذا الرجل سماه ابن إسحاق في "السيرة": شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة -بإسكان العين مع فتح الجيم- ابن عورة - بضم العين- بن أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة يكنى أبا بكر، ويعرف: شعوب، وعن ابن هشام قال أبو عبيدة: كان أسلم ثم ارتد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حبيب: شعوب، أمه من خزاعة، واسمه عمرو بن شمر بن ليث بن عبد شمس بن مالك، له شعر كثير قاله وهو كافر، ثم أسلم بعد. وقال المرزباني: كان شاعرا رثى قتلى بدر من المشركين، وفي "صحيح الإسماعيلي" أن عائشة رضي الله عنها كانت تدعو على من يقول: إن أبا بكر قال هذه القصيدة.

                                                                                                                                                                                                                              والقليب: البئر قبل أن تطوى، وقيل البئر العارية، و(الشيزى) مقصور: خشب أسود يتخذ منه قصاع وجفان، وكذا الشيز.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: يقال للقصاع والجفان شيزى (...) الشيز، وربما قالوا: الشزية فنسبوها إليه وكذلك محلات السكر، وذلك لسواد الجفان، وقال الأصمعي: إنما هي من خشب الجوز يسود من الدسم، والشيزى جمع شيز، والشيز يغلظ حتى ينحت منه، وقد أكثر الشعراء ذكر الشيزى والشيزية. وقال الخطابي: الشيزى شجر يتخذ منه الجفان، وكانوا يسمون الرجل المطعم جفنة; لأنه يطعم الناس فيها، وتبعه ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 557 ] والمعنى: ماذا ببدر من أصحاب الجفان وأصحاب القينات كقوله تعالى واسأل القرية [يوسف: 82]. وقال الداودي: هي الجمال، قال: ومعنى (تزين بالسنام) يعني: بالأسنمة الإبل; لأن الإبل إذا سمنت تعظم أسنمتها، ويعظم جمالها، وهذا غلط منه كما قاله ابن التين، وإنما أراد بالقليب المطعمين في الجفان، وكان العرب تسمي الرجل الكريم جفنة; لأنه يطعم الأضياف و(القينات): جمع، واحدهن: قينة، وهي المغنية، ويقال ذلك للماشطة وللأمة، قال الخطابي: وللحرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس: القين والقينة: العبد والأمة، قال: والعرب تسمي المغنية القينة. و(الشرب) بفتح المعجمة، جمع شارب في قول الأخفش، واسم الجمع في قول سيبويه وجزم الخطابي بأنه جمع شارب يعني: الندماء الذين يجتمعون للشرب، وتبعه ابن التين، مثل: تاجر وتجر، وصاحب وصحب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (تحيي بالسلامة أم بكر) فيه دلالة على أن معنى السلام الذي هو التحية: السلامة، ومصدر قولهم: سلم الرجل سلاما وسلامة، ألا تراه كيف عطف عليه في المصراع الأخير بالسلام، يريد: وهل لي بعد هلاك قومي من سلام.

                                                                                                                                                                                                                              والأصداء: جمع صدى، وهو ما كان يزعمه أهل الجاهلية من أن روح الإنسان تصير طائرا يقال له: الصدى. وقيل: هو الذكر من الهام. وذلك من ترهات الجاهلية وأباطيلهم وإنكاراتهم للبعث. وقال الداودي: الصدى: عظام الميت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 558 ] والهام: جمع هامة، وهم الموتى، يقال: أصبح فلان هامة: إذا مات. ويحتمل أن يريد الأشراف; لأن هامة القوم سيدهم. وذكر الداودي عن (أبي عبيدة) في "تفسيره" أن العرب كانت تقول: إذا مات الميت تكون من عظامه [هامة] تطير.

                                                                                                                                                                                                                              قال الهروي: يسمون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت: الصدى. وذكر ابن فارس أن العرب كانت تقول: إن القتيل إذا لم يدرك بثأره يصير هامة في القبر، (فتزقو) فتقول: اسقوني اسقوني. فإذا أدرك ثأره طارت.

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل أن يريد بالهام الرئيس، قاله الداودي، والظاهر ما سلف; لقوله: (وكيف حياة أصداء وهام) فذلك لا يقال للرئيس; بلي وصار لا يرجى.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث العشرون:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي بكر،- رضي الله عنه-: كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام المشركين، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: "اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 559 ] فيه: الفضل الباهر لهما.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الحادي بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي سعيد،- رضي الله عنه-: جاء أعرابي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث سلف في الزكاة، في باب زكاة الإبل فراجعه.

                                                                                                                                                                                                                              وزاد هنا: "فهل تمنح منها؟ " قال: نعم. قال "فتحلبها يوم وردها؟ " قال: نعم.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ("يترك"): ينقصك، وذكر الإسماعيلي أن الفريابي قاله بالتشديد، والله أعلم.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية