الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المختلفات التي عليها دلالة

حدثنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال : { أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس بالحج فتدارك الناس بالمدينة ليخرجوا معه فخرج فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلقنا لا نعرف إلا الحج وله خرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ينزل عليه القرآن وهو يعرف تأويله وإنما يفعل ما أمره به فقدمنا مكة فلما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة قال من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة } .

أخبرنا إبراهيم بن محمد عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش عن جابر أنه قال : { ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحرامه حجا ولا عمرة } . أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة أنها سمعت عائشة تقول : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قالت عائشة فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقالوا : نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه } قال يحيى فذكرت هذا الحديث للقاسم فقال : أتتك بالحديث على وجهه . أخبرنا سفيان عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة أنهما سمعا طاوسا يقول { خرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء . قال : فنزل عليه القضاء وهو يطوف بين الصفا والمروة فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة ، وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولكني لبدت رأسي وسقت هديي فليس لي محل إلا محلي هذا فقام إليه سراقة بن مالك فقال يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم أعمرتنا لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال فدخل علي من اليمن فسأله النبي صلى الله عليه وسلم بما أهللت ؟ فقال أحدهما لبيك إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر لبيك حجة النبي صلى الله عليه وسلم } .

أخبرنا [ ص: 679 ] مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج } . أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : { وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج } . حدثنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر { عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر } .

( قال الشافعي ) وليس مما وصفت من هذه الأحاديث المختلفة شيء أحرى إلا أن يكون متفقا من وجه أو مختلفا من وجه لا ينسب صاحبه إلى الغلط باختلاف من حديث أنس ومن قال قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم ممن قال كان ابتداء إحرامه حجا لا عمرة معه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة قال ولم يختلف في شيء من السنن الاختلاف في هذا من وجه أنه مباح وإن كان الغلط فيه قبيحا مما حمل من الاختلاف ومن فعل شيئا مما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم فعله كان له واسعا لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافا يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسع كله .

( قال الشافعي ) وأشبه الرواية أن يكون محفوظا في حج النبي صلى الله عليه وسلم رواية جابر بن عبد الله { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لا يسمي حجا ولا عمرة } وطاوس { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج محرما ينتظر القضاء } لأن رواية يحيى بن سعيد عن قاسم وعمرة عن عائشة توافق روايته وهؤلاء تقصوا الحديث ، ومن قال أفرد الحج فيشبه ، والله أعلم أن يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه بالحج .

( قال الشافعي ) وأحسب أن عروة حين حدث { أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج } إنما ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وذكر أن عائشة أهلت بعمرة إنما ذهب إلى أن عائشة قالت ففعلت في عمرتي كذا لا أنه خالف خلافا بينا لحديث جابر وأصحابه في قول عائشة ومنا من جمع الحج والعمرة .

( قال الشافعي ) فإن قال قائل قرن الصبي بن معبد فقال له : عمر بن الخطاب هديت لسنة نبيك قيل له حكي له أن رجلين قالا له هذا أضل من جملة ، فقال هديت لسنة نبيك إن من سنة نبيك أن القران والإفراد والعمرة هدي لا ضلال فإن قال قائل فما دل على هذا ؟ قيل : أمر عمر بأن يفصل بين الحج والعمرة وهو لا يأمر إلا بما يسع ويجوز في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإفراده الحج .

( قال الشافعي ) فإن قيل فما { قول حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم ما بال الناس حلوا ولم تحلل من عمرتك } ؟ قيل : أكثر الناس لم يكن معه هدي وكانت حفصة معهم فأمروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة ويحلوا فقالت لم حل الناس ولم تحل من عمرتك ؟ تعني من إحرامك الذي ابتدأته وهم بنية واحدة قال عليه السلام { لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر بدني } يعني ، والله أعلم حتى يحل الحاج لأن القضاء نزل عليه أن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجا ، وهذا من سعة لسان العرب الذي تكاد تعرف ما الجواب فيه فإن قال قائل فمن أين ثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر وطاوس دون حديث من قال قرن ؟ قيل : لتقدم صحبة جابر وحسن سياقه لابتداء الحديث وآخره وقرب عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم وفضل حفظها عنه وقرب ابن عمر منه ولأن من وصف انتظار النبي عليه السلام القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج قبل حجته حجة الإسلام طلب الاختيار فيما وسع له فيه من الحج والعمرة يشبه أن يكون حفظ عنه لأنه قد أبى في المتلاعنين فانتظر القضاء فيهما وكذلك حفظ عنه في غيرهما والله أعلم

.

التالي السابق


الخدمات العلمية