الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          كيفية صلاة الخوف في القرآن

                          قال - عز وجل - بعدما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة : وإذا كنت فيهم أي : وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين ، ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة فأقمت لهم الصلاة ، إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة " قد قامت الصلاة " مرتين بعد كلمة حي على الفلاح كما ثبت في السنة الصحيحة ، وقيل : هو كالأذان مع زيادة ما ذكر ، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب ، والظاهر هنا المعنى الأول ، لتعديته باللام ; ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها ، وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية ، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة ، أي : والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة فلتقم طائفة منهم معك ، في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين العدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه وليأخذوا أسلحتهم ، أي : وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها ، وعن ابن عباس أن الأمر بأخذ السلاح أي جملة هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة ، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس - حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد ، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال ، فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة ; لأنه مظنة المنع أو الامتناع ، والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به ، وإنما يحمل منه في حال إقامة الصلاة [ ص: 305 ] التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي ، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر فإذا سجدوا ، أي : فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة فليكونوا من ورائكم أي : فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم ، وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا ; لأنه لا يرى حينئذ من يهم به ، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي : إتمامها ; لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى ، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صلوا ، وهو قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ، أي : ولتأت طائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى : وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم ، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخلوف ، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله - تعالى - من هذه السورة بل من هذا السياق فيها ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم ( 71 ) ، قيل : إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية هو أن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها ، بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال ، واستعدوا للحرب والنزال ، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة ، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة ، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة ، وقد بين - تعالى - لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال : ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ، أي : تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ، أي : يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح تاركون حماية المتاع والزاد ، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله ، وينتهبون ما استطاعوا أخذه ، فلا تغفلوا عنهم ، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم ، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها .

                          ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين ، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح ، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال : ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ، أي : ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم ، وربما أفسد الماء السلاح ; لأنه سبب الصدأ ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل ، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا [ ص: 306 ] حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم ، والضرورة تتقدر بقدرها إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ، بما هداكم إليه من أسباب النصر ، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر ، والاعتصام بالصلاة والصبر ، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر ، فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله - تعالى - به من الأسباب النفسية والعملية ، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا وقوله : فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ( 4 : 104 ) ، ويؤيده قوله - تعالى - : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ( 9 : 14 ) ، وقال جمهور المفسرين : إن المراد به عذاب الآخرة ، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء .

                          روى البخاري أن الرخصة في الآية للمرضى ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه ، وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل ، وروى أحمد والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن ابن عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ; فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، الحديث وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة ، وابن جرير نحوه عن جابربن عبد الله وابن عباس ، انتهى من لباب النقول .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية