الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ولئن اتبعت أهواءهم ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع ، والهواء الممدود معروف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب ، قال بعضهم : الرسول ، وقال بعضهم : الرسول وغيره . وقال آخرون : بل غيره ؛ لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك ، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب ، وهذا القول الثالث خطأ ؛ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح ، والإلجاء عنه مرتفع ، فهو منهي عنه ، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه ، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به ، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأمورا بشيء ولا منهيا عن شيء وأنه بالاتفاق باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فلما كان ذلك الاحتراز مشروطا بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافيا للنهي والتحذير .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قررها في العقول ، والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعا : قوله تعالى في حق الملائكة : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ النحل : 50 ] وقال في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] وقد أجمعوا على أنه - عليه الصلاة والسلام - ما أشرك وما مال إليه ، وقال : ( ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ الأحزاب : 1 ] وقال تعالى : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) [ القلم : 9 ] وقال : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] وقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) [ الأنعام : 14 ] فثبت بما ذكرنا أنه - عليه الصلاة والسلام - منهي عن ذلك ، وأن غيره أيضا منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟ فنقول فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبها بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه ، وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيها للغير أو توكيدا ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن قوله : ( ولئن اتبعت أهواءهم ) ليس المراد منه أنه اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام ، [ ص: 116 ] طمعا منه - عليه الصلاة والسلام - في استمالتهم ، فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضا ، وآيسه منهم بالكلية على ما قال : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) [ الإسراء : 74 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره ، وهذا كما أنك إذا عاتبت إنسانا أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقابا شديدا ، فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية