الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

والفرق بين العلم والمعرفة لفظا ومعنى ، أما اللفظ : ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد ، تقول : عرفت الدار ، وعرفت زيدا ، قال تعالى : فعرفهم وهم له منكرون ، وقال : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .

وفعل العلم يقتضي مفعولين ، كقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات وإن وقع على مفعول واحد ، كان بمعنى المعرفة ، كقوله : وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وأما الفرق المعنوي فمن وجوه :

أحدها : أن المعرفة تتعلق بذات الشيء ، والعلم يتعلق بأحواله ، فتقول : عرفت أباك ، وعلمته صالحا عالما ، ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة ، كقوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، وقوله : اعلموا أن الله شديد العقاب ، وقوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله .

فالمعرفة : حضور صورة الشيء ومثاله العلمي في النفس ، والعلم : حضور أحواله وصفاته ونسبتها إليه ، فالمعرفة : تشبه التصور ، والعلم : يشبه التصديق .

[ ص: 315 ] الثاني : أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه ، فإذا أدركه قيل : عرفه ، أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه ، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها ، قيل : عرفه ، قال الله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم ، وقال تعالى : وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، وقال : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما كانت صفاته معلومة عندهم ، فرأوه : عرفوه بتلك الصفات ، وفي الحديث الصحيح : إن الله تعالى يقول لآخر أهل الجنة دخولا : أتعرف الزمان الذي كنت فيه ؟ فيقول : نعم . فيقول : تمن ، فيتمنى على ربه وقال تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فالمعرفة : تشبه الذكر للشيء ، وهو حضور ما كان غائبا عن الذكر ، ولهذا كان ضد المعرفة الإنكار ، وضد العلم الجهل ، قال تعالى : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ويقال : عرف الحق فأقر به ، وعرفه فأنكره .

الوجه الثالث من الفرق : أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره ، وهذا الفرق غير الأول ، فإن ذاك يرجع إلى إدراك الذات وإدراك صفاتها ، وهذا يرجع إلى تخليص الذات من غيرها ، وتخليص صفاتها من صفات غيرها .

الفرق الرابع : أنك إذا قلت : علمت زيدا ، لم يفد المخاطب شيئا ؛ لأنه ينتظر [ ص: 316 ] بعد : أن تخبره على أي حال علمته ؟ فإذا قلت : كريما أو شجاعا ، حصلت له الفائدة ، وإذا قلت : عرفت زيدا . استفاد المخاطب ، أنك أثبته وميزته عن غيره ، ولم يبق منتظرا لشيء آخر ، وهذا الفرق في التحقيق إيضاح للفرق الذي قبله .

الفرق الخامس وهو فرق العسكري في فروقه وفروق غيره : أن المعرفة علم بعين الشيء مفصلا عما سواه ، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجملا ، وهذا يشبه فرق صاحب المنازل ، فإنه قال : المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو ، وعلى هذا الحد : فلا يتصور أن يعرف الله ألبتة ، ويستحيل عليه هذا الباب بالكلية فإن الله سبحانه لا يحاط به علما ، ولا معرفة ولا رؤية ، فهو أكبر من ذلك وأجل وأعظم ، قال تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما بل حقيقة هذا الحد : انتفاء تعلق المعرفة بأكبر المخلوقات حتى بأظهرها ، وهو الشمس والقمر ، بل لا يصح أن يعرف أحد نفسه وذاته ألبتة .

والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن : أن المعرفة عندهم هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه ، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده ، بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالما بالله ، وبالطريق الموصل إلى الله ، وبآفاتها وقواطعها ، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة ، فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ثم صدق الله في معاملته ، ثم أخلص له في قصوده ونياته ، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته ، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته ، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته ، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته ، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله ، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم ، ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته ، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة ، إذا سمي به غيره على الدعوى والاستعارة .

[ ص: 317 ] وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها ، فقال بعضهم : من أمارات المعرفة بالله : حصول الهيبة منه ، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته .

وقال أيضا : المعرفة توجب السكون ، فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته .

وقال لي بعض أصحابنا : ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها ؟ فقلت له : أنس القلب بالله ، قال لي : علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله ، فيجده قريبا منه .

وقال الشبلي : ليس لعارف علاقة ، ولا لمحب شكوى ، ولا لعبد دعوى ، ولا لخائف قرار . ولا لأحد من الله فرار .

وهذا كلام جيد ، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق كلها ، وتعلقه بمعروفه ، فلا يبقى فيه علاقة بغيره ، ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة ، لا تمر مرور استيطان .

وقال أحمد بن عاصم : من كان بالله أعرف كان له أخوف ، ويدل على هذا قوله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء وقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أعرفكم بالله ، وأشدكم له خشية .

وقال آخر : من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها .

وقال غيره : من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق .

ولا تنافي بين هذين الأمرين ، فإنه يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه ، ويتسع عليه ما ضاق على غيره ، لأنه ليس فيه ، ولا هو مساكن له بقلبه ، فقلبه غير محبوس فيه .

والأول : في بداية المعرفة . والثاني : في نهايتها التي يصل إليها العبد .

وقال آخر : من عرف الله تعالى صفا له العيش ، فطابت له الحياة ، وهابه كل شيء ، وذهب عنه خوف المخلوقين ، وأنس بالله .

وقال غيره : من عرف الله قرت عينه بالله ، وقرت عينه بالموت ، وقرت به كل عين ، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات ، ومن عرف الله لم يبق له رغبة [ ص: 318 ] فيما سواه ، ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره : كذبت رغبته معرفته ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به ، وخافه ورجاه ، وتوكل عليه ، وأناب إليه ، ولهج بذكره ، واشتاق إلى لقائه ، واستحيا منه ، وأجله وعظمه على قدر معرفته به ، وعلامة العارف : أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها الغيب الذي دعي إلى الإيمان به ، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه ، والدار الآخرة ، والجنة والنار ، والملائكة ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، كما قيل :


إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم     بدت فيه السماء بلا امتراء
كذاك الشمس تبدو والنجوم     كذاك قلوب أرباب التجلي
يرى في صفوها الله العظيم

وهذه رؤية المثل الأعلى ، كما تقدم .

ومن علامات المعرفة : أن يبدو لك الشاهد ، وتفنى الشواهد ، وتنحل العلائق ، وتنقطع العوائق ، وتجلس بين يدي الرب تعالى ، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه ، كما يجلس الذي شد أحماله وأزمع السفر على التأهب له ، ويقوم على ذلك ويضطجع عليه ، كما ينزل المسافر في المنزل ، فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب .

وقيل للجنيد : إن أقواما يدعون المعرفة ، يقولون : إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى ؟ فقال الجنيد : هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال ، وهو عندي عظيم ، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، إن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله ، وإلى الله رجعوا فيها ، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بيني وبينها .

ومن علامات العارف : أنه لا يطالب ولا يخاصم ، ولا يعاتب ، ولا يرى له على أحد فضلا ، ولا يرى له على أحد حقا .

ومن علاماته : أنه لا يأسف على فائت ، ولا يفرح لآت ؛ لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال ؛ لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال . وقال الجنيد : لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر ، وكالسحاب يظل كل شيء ، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب . ، وقال يحيى بن معاذ : يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين : بكاء على نفسه ، وثناء على ربه ، وهذا من أحسن الكلام ، فإنه يدل على معرفته بنفسه وعيوبه وآفاته ، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله ، فهو شديد الإزراء على نفسه ، لهج بالثناء على ربه .

[ ص: 319 ] وقال أبو يزيد : إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له .

يريد تضييع حظوظهم ، والوقوف مع حقوق الله سبحانه وتعالى ، فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم .

وقال آخر : لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطي ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين ، وهذا يحتاج إلى شرح ، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب ، لكن يكون اشتغاله بغير الله لله ، فذلك اشتغال به سبحانه ؛ لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم يشتغل عنه .

قال ابن عطاء : المعرفة على ثلاثة أركان : الهيبة والحياء والأنس . وقيل لذي النون : بم عرفت الله ربك ؟ قال : عرفت ربي بربي ، ولولا ربي لما عرفت ربي . وقيل لعبد الله بن المبارك : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، فأتى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة ولا إقرار بالله سبحانه إلا به ، وهو المباينة والعلو على العرش .

ومن علامات العارف : أن يعتزل الخلق بينه وبين الله ، حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ويعتزل نفسه بينه وبين الخلق ، حتى يكون بينهم بلا نفس ، وهذا معنى قول من قال : العارف يقطع الطريق بخطوتين : خطوة عن نفسه ، وخطوة عن الخلق .

وقيل : العارف ابن وقته ، وهذا من أحسن الكلام وأخصره ، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى ، وصار في العدم ، وعما لم يدخل بعد في الوجود ، فهمه عمارة وقته الذي هو مادة حياته الباقية .

ومن علاماته : أنه مستأنس بربه ، مستوحش ممن يقطعه عنه ، ولهذا قيل : العارف من أنس بالله ، فأوحشه من الخلق ، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم ، وذل لله فأعزه فيهم ، وتواضع لله فرفعه بينهم ، واستغنى بالله فأحوجهم إليه .

وقيل : العارف فوق ما يقول ، والعالم دون ما يقول ، يعني أن العالم علمه أوسع من حاله وصفته ، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره .

وقال أبو سليمان الداراني : إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه ما لم يفتح له وهو قائم يصلي ، وقال غيره : العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت .

وقال ذو النون : لكل شيء عقوبة . وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله .

[ ص: 320 ] وقال بعضهم : رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين ، وهذا كلام ظاهره منكر جدا يحتاج إلى شرح ، فالعارف لا يرائي المخلوق طلبا للمنزلة في قلبه وإنما يكون رياؤه نصيحة وإرشادا وتعليما ليقتدى به ، فهو يدعو إلى الله بعمله كما يدعو إليه بقوله ، فهو ينتفع بعلمه وينفع به غيره ، وإخلاص المريد مقصور على نفسه ، فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله ، فإخلاصه في قلبه ، وهو يظهر عمله وحاله ليقتدى به ، والعارف ينفع بسكوته ، والعالم إنما ينفع بكلامه .


ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق

وقال ذو النون : الزهاد ملوك الآخرة ، وهم فقراء العارفين . وسئل الجنيد عن العارف ؟ فقال : لون الماء لون إنائه ، وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية ، وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية ، فبينما تراه مصليا إذ رأيته ذاكرا ، أو قارئا ، أو معلما ، أو متعلما ، أو مجاهدا ، أو حاجا ، أو مساعدا للضيف ، أو مغيثا للملهوف ، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم ، فهو مع المتسببين متسبب ، ومع المتعلمين متعلم ، ومع الغزاة غاز ، ومع المصلين مصل ، ومع المتصدقين متصدق ، فهو يتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية ، وهو مقيم على معبود واحد ، لا ينتقل إلى غيره .

وقال يحيى بن معاذ : العارف كائن بائن ، وهذا يفسر على وجوه .

منها : أنه كائن مع الخلق بظاهره ، بائن عنهم بسره وقلبه .

ومنها : أنه كائن بربه بائن عن نفسه .

ومنها : أنه كائن مع أبناء الآخرة ، بائن عن أبناء الدنيا .

ومنها : أنه كائن مع الله بموافقته ، بائن عن الناس في مخالفته .

ومنها : أنه داخل في الأشياء خارج منها ، فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها ، ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها ، والعارف داخل فيها خارج منها ، ولعل هذا أحسن الوجوه .

وقال ذو النون : علامة العارف ثلاثة : لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم ، ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله .

وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة ، وهو محتاج إلى شرح ، فإن كثيرا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة ، فإن المعرفة متسعة الأكناف ، واسعة الأرجاء . فالعارف واسع موسع ، والسعة تطفئ نور الورع ، فالعارف لا تنقص [ ص: 321 ] معرفته ورعه ، ولا يخالف ورعه معرفته ، كما قال بعضهم : العارف لا ينكر منكرا ؛ لاستبصاره بسر الله في القدر ، فعنده : أن مشاهدة القدر والحقيقة الكونية : هو غاية المعرفة ، وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة ؛ لأنهم مأسورون في قبضة القدر ، فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم ، بل أرباب الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع ، بل لظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه .

قوله " باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم " فإنه يشير به إلى ما عليه المنحرفون ، ممن ينسب إلى السلوك ، فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد ، وواردات تخالف الحكم الشرعي ، وتكون تلك معلومة لهم لا يمكنهم جحدها ، فيعتقدونها ويتركون بها ظاهر الحكم ، وهذا كثير جدا ، وهو الذي انتقد أئمة الطريق على هؤلاء ، وصاحوا بهم من كل ناحية ، وبدعوهم وضللوهم به .

قوله " ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله " كثرة النعم تطغي العبد ، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها وغير وجوهها ، وهي تدعو إلى أن يتناول العبد بها ما حل وما لا يحل ، وأكثر المنعم عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال ، بل يتعداه إلى غيره ، وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منهم أيدي الشهوات والمخالفات ، ويقول : العارف لا تضره الذنوب ، كما تضر الجاهل ، وربما يسول له أن ذنوبه خير من طاعات الجهال ، وهذا من أعظم المكر ، والأمر بضد ذلك ، فيحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العارف وإذا عوقب الجاهل ضعفا عوقب العارف ضعفين ، وقد دل على هذا شرع الله وقدره ، ولهذا كانت عقوبة الحر في الحدود مثلي عقوبة العبد ، وقال تعالى في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين فإذا أكملت النعمة على العبد ، فقابلها بالإساءة والعصيان : كانت عقوبته أعظم ، فدرجته أعلى وعقوبته أشد .

وقال أيضا : ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة ، فكيف عند أبناء الدنيا ؟ يريد : أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها ، سواء كانوا عبادا ، أو من أبناء الدنيا .

وقال أبو سعيد : المعرفة تأتي من عين الوجود ، وبذل المجهود ، وهذا كلام حسن ، يشير إلى أن المعرفة ثمرة بذل المجهود في الأعمال ، وتحقق الوجد في [ ص: 322 ] الأحوال ؛ فهي ثمرة عمل الجوارح ، وحال القلب لا ينال بمجرد العلم والبحث ، فمن ليس له عمل ولا حال فلا معرفة له .

وسئل ذو النون عن العارف ؟ فقال : كان هاهنا فذهب .

فسئل الجنيد عما أراد بكلامه هذا ؟ فقال : لا يحصره حال عن حال ، ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل ، فهو مع كل أهل منزل بمثل الذي هم فيه ، يجد مثل الذي يجدون ، وينطق بمعالمها لينتفعوا .

وقال محمد بن الفضل : المعرفة حياة القلب مع الله .

وسئل أبو سعيد : هل يصل العارف إلى حال يجفو عليه البكاء ؟ فقال : نعم ، إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله ، فإذا نزلوا بحقائق القرب ، وذاقوا طعم الوصول من بره ؛ زال عنهم ذلك .

وقال بعض السلف : نوم العارف يقظة ، وأنفاسه تسبيح ، ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل .

وإنما كان نوم العارف يقظة ؛ لأن قلبه حي ؛ فعيناه تنامان ، وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي ربها وفاطرها ، جسده في الفرش ، وقلبه حول العرش ، وإنما كان نومه أفضل من صلاة الغافل ؛ لأن بدن الغافل واقف في الصلاة ، وقلبه يسبح في حشوش الدنيا والأماني ؛ ولذلك كانت يقظته نوما ؛ لأن قلبه موات .

وقيل : مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست : من الشك إلى اليقين ، ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الغفلة إلى الذكر ، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الطوية إلى النصيحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية