الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال دار في يد رجلين كل واحد منهما يدعي أنها له وكل واحد منهما يدعي لما في يد صاحبه لأن في يد كل واحد منهما نصف الدار فكأن الدار الواحدة بمنزلة دارين في يد كل واحد منهما أو أحدهما وكل واحد منهما يدعيها فكان كل واحد منهما مدعيا لما في يد صاحبه فعليه البينة ومنكر الدعوى صاحبه فيما في يده فإن أقاما البينة قضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه فرجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق فلو لم يقم لهما بينة يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وأيهما حلف برئ منهما وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لأن نكوله قائم مقام إقراره لما ادعاه صاحبه فقد أسلمت هذه البينة على فصلين أحدهما أن بينة الخارج وبينة ذي اليد إذا تعارضتا على الملك المطلق فبينة الخارج أولى بالقبول عندنا وفي أحد قولي الشافعي تتهاتر البينتان ويكون المدعى لذي اليد كان في يده لقضائه له وفي القول الآخر ترجح بينة ذي اليد فيقضى به لذي اليد فقضاء ملك بالبينة وطريقه على القول الأول أن بينة الخارج حجة يجوز دفعها بالطعن فيها فيجوز دفعها بالمعارضة كالأدلة الشرعية فإذا تحقق التعارض فالقاضي تيقن بكذب أحدهما لأن العين الواحدة في وقت واحد لا تكون كلها [ ص: 33 ] ملكا لكل واحد منهما فبطلت البينتان وبقي اليمين في يد ذي اليد بحكم يده

وطريقه على القول الآخر أن ذا اليد له نوعان من الحجة اليد والبينة وللخارج نوع واحد وذو الحجتين يترجح على ذي حجة واحدة كما في دعوى النكاح وما في معناه وكما لو ادعيا تلقي الملك من واحد وأحدهما قابض فأقاما البينة وهذا لأن بينة ذي اليد وجب قبولها الآن لصيرورته محتاجا إلى إقامتها بإقامة الخارج البينة ولنا في المسألة طريقان : أحدهما أن بينة ذي اليد تقوم على ما شهد له الظاهر به فلا تكون حجة كبينة المدين على أن لا دين عليه .

( ألا ترى ) أنه لو أقامها قبل إقامة الخارج البينة لم تقبل وهو محتاج إليها في إسقاط اليمين عن نفسه والبينة تقبل لهذه الحاجة كما لو أقام المودع البينة على رد الوديعة أو هلاكها فكذلك بعد إقامة الخارج البينة وهذا لأن شهود ذي اليد يشهدون له باعتبار يده القائمة ولا طريق لمعرفة الملك إلا اليد وبينة الخارج لا تندفع بيد ذي اليد وإن كان القاضي يعاينها فكذلك لا تندفع ببينة تعتمد تلك اليد بخلاف النتاج فإن باعتبار اليد لا يجوز لهم الشهادة على النتاج وإنما اعتمدوا سببا آخر ذلك غير ظاهر عند القاضي فلا بد من قبول البينة عليه وبخلاف بينة مجهول الحال على حريته لأن الشهود لا يجوز لهم أن يشهدوا بحريته بسبب الدار فإنما اعتمدوا شيئا آخر ذلك غير ظاهر عند القاضي وذلك شهود الشراء لذي اليد الذي اعتمدوا سببا ، وذلك غير ظاهر أيضا عند القاضي فوجب قبول بينته ثم يترجح بيده والطريق الآخر أن البينات تترجح بزيادة الإثبات والإثبات في بينة الخارج أكثر لأنه يثبت الملك على خصم هو مالك وبينة ذي اليد لا يثبت الملك على خصم هو مالك لأن بمجرد إقامة الخارج البينة لم يثبت الاستحقاق له قبل القضاء فلا يصير هو مقضيا عليه لو قضى ببينة ذي اليد وإذا قضى ببينة الخارج صار ذو اليد مقضيا عليه فلزيادة الإثبات رجحنا بينة الخارج بخلاف دعوى الخارج فإن كل واحد من البينتين هناك يثبت أولية المالك لصاحبه وذلك لا يكون استحقاقا على غيره ولهذا لا يصير ذو اليد مقضيا عليه إذا أقام البينة على النتاج حتى لو أقام ذو اليد البينة على النتاج بعد قضاء القاضي للخارج وجب قبول بينته فلما استويا في الإثبات رجحنا بينة ذي اليد

وكذلك إذا ادعيا تلقي الملك من واحد فقد استوت البينات في الإثبات ; لأن استحقاق كل واحد منهما على البائع فرجحنا بينة ذي اليد لتأكيد شرائه بالقبض وهذا بخلاف الأدلة الشرعية فإنها حجة في النفي والإثبات فيتحقق التعارض وهنا البينتان للإثبات لا للنفي وحاجة [ ص: 34 ] ذي اليد إلى استحقاق الخارج فلم يتحقق التعارض والفصل الثاني أن يكون نكول المدعى عليه عن اليمين موجبا للقضاء عليه بالمال عندنا ولكن ينبغي للقاضي أن يعرض عليه اليمين ثلاث مرات ويخبره في كل مرة أن من رأيه القضاء بالنكول إيلاء لعذره فإن لم يحلف قضى عليه وعند الشافعي رحمه الله يرد اليمين على المدعي فإن حلف أخذ المال وإن أبى انقطعت المنازعة بينهما وحجته في منع القضاء بالنكول أنه سكوت في نفسه فلا يكون حجة للقضاء عليه كسكوته عن الجواب في الابتداء وهذا ; لأنه محتمل قد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة كما فعله عثمان رضي الله عنه وقال خشيت أن يوافق قدر يميني فيقال أصيب بيمينه والمحتمل لا يكون حجة .

وحجته في رد اليمين على المدعي على ما روي أن عثمان رضي الله عنه ادعى مالا على المقداد بن الأسود الكندي رضي الله عنه بين يدي عمر رضي الله عنه الحديث إلى أن قال المقداد رضي الله عنه ليحلف عثمان رضي الله عنه ليحلف عثمان رضي الله عنه ويأخذ حقه فقال عمر رضي الله عنه لقد أنصف المقداد وعن علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه والمعنى فيه أن اليمين في جانب المدعى عليه في الابتداء لكون الظاهر شاهدا له وبنكوله صار الظاهر شاهدا للمدعي فيعود اليمين إلى جانبه ولهذا بدأنا في اللعان بأيمان الخروج لشهادة الظاهر له فإنه لا يلوث فراشه كاذبا وبدأت أنا في القيامة بيمين الولي للشهادة الظاهرة فإن المسألة فيما إذا كانت العداوة ظاهرة بين القتيل وأهل المحلة وكان العهد قريبا بدخولهم في محلتهم إلى أن وجد قتيلا ولنا في المسألة حديث عمر رضي الله عنه فإنه قضى على الزوج بالطلاق في قوله حبلك على غاربك عند نكوله عن اليمين على إرادة الطلاق وقضى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لصحة الرجعة عند نكولها عن اليمين على أنها كانت بعد حل الصلاة لها وقال ابن مليكة رضي الله عنه كنت قاضيا بالبصرة فاختصم إلي امرأتان في سوار فطلبت البينة من المدعية فلم أجد وعرضت اليمين على الأخرى فنكلت فكتبت إلى أبي موسى رضي الله عنه فورد كتابه أن أحضرهما واتل عليهما قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية ثم اعرض اليمين على المدعية عليها فإن نكلت فاقض عليها وقضى شريح رحمه الله بالنكول بين يدي علي رضي الله عنه فقال له ( قالون ) وهي باللغة العربية أصبت وما روي عن علي رضي الله عنه أنه حلف المدعي فبناء على مذهبه لأنه كان يحلف مع تمام حجة القضاء بالبينة ولسنا نأخذ بذلك .

وتأويل حديث المقداد رضي الله عنه أنه ادعى الإيفاء على [ ص: 35 ] عثمان رضي الله عنه وبه نقول ومن حيث المعنى إما طريقان أحدهما أن حق المدعي قبل المدعى عليه هو الجواب وهو جواب يوصله إلى حقه وهو الإقرار فإذا فوت عليه ذلك بإنكاره حوله الشرع إلى اليمين خلفا عن أصل حقه فإذا منعه الحلف يعود إليه أصل حقه ; لأنه لا يتمكن من منع الحلف شرعا إلا بإيفاء ما هو أصل الحق وهذا الطريق على قولهما وأنهما يجعلان النكول بمنزلة الإقرار والطريق الآخر أن الدعوة لما صحت من المدعي يخير المدعى عليه بين بدل المال وبين اليمين فإذا امتنع منهما وأحدهما تجري فيه النيابة دون الآخر ; ناب القاضي منابه فيما تجري فيه النيابة وهذا ; لأن تمكنه من المنازعة شرعا بشرط أن يحلف فإذا أبى ذلك صار تاركا للمنازعة بتفويت شرطها فكأنه قال لا أنازعك في هذا المال فيتمكن المدعي من أخذه ; لأنه يدعيه ولا منازع له فيه وهذا الطريق على أصل أبي حنيفة رحمه الله حيث جعل النكول بدلا ولا عبرة للاحتمال في النكول ; لأن الشرع ألزمه التورع عن اليمين الكاذبة دون الترفع عن الصادقة فيترجح هذا الجانب في نكوله ولأنه لا يتمكن من الترفع عن اليمين إلا ببدل المال فإنه إنما يرتفع ملتزما الضرر على نفسه لا ملحقا الضرر بالغير يمنع الحق والذي قال من شهادة الظاهر للمدعي عند نكول المدعى عليه لا يكون ذلك إلا بترجح جانب الصدق في دعوى المدعي وذلك موجب للقضاء ثم اليمين مشروعة للنفي لا للإثبات وحاجة المدعي إلى الإثبات فلا تكون اليمين حجة له هذا معنى تعليل محمد رحمه الله لا أحول اليمين عن موضعه وهذا ; لأنها في النفي لا توجب النفي حتى تقبل بينة المدعي بعد يمين المدعى عليه ففي غير موضعه وهو الإثبات أولى أن لا يوجب الإثبات والشهادات للإثبات ثم لا يستحق المدعي بشهادته لنفسه شيئا بحال فلأن لا يستحق بيمينه لنفسه وهو في غير موضع الإثبات كان أولى

التالي السابق


الخدمات العلمية