الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      ( ما عصمه الله به من أمر الجاهلية )

                                                                                      ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية أن قريشا كانوا يسمون الحمس ، يعني الأشداء الأقوياء ، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة ، ولا يقفون مع الناس بعرفة ، يفعلون ذلك رياسة [ ص: 72 ] وبأوا ، وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم - عليه السلام- في جملة ما خالفوا . فروى البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم ، قال : أضللت بعيرا لي يوم عرفة ، فخرجت أطلبه بعرفة ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة ، فقلت : هذا من الحمس ، فما شأنه هاهنا ؟

                                                                                      وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة ، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية ، عن أبيه ، عن جده ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين ، عصمني الله ، قلت ليلة لفتى من قريش : أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان . قال : نعم ، فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور مكة ، فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : فلان تزوج ، فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني ، فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي ، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك ، فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية ، حتى أكرمني الله بنبوته .

                                                                                      وروى مسعر ، عن العباس بن ذريح ، عن زياد النخعي ، قال : حدثنا عمار بن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما ؟ قال : " لا ، وقد كنت معه على ميعادين ، أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي ، والآخر غلبتني عيني " أو كما قال .

                                                                                      وقال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني أبو بكر بن أبي سبرة ، عن حسين بن عبد الله بن عبيد بن عباس ، عن عكرمة ، عن [ ص: 73 ] ابن عباس قال : حدثتني أم أيمن ، قالت : كان بوانة صنما تحضره قريش ، تعظمه وتنسك له النساك ، ويحلقون رءوسهم عنده ، ويعكفون عنده يوما في السنة ، وكان أبو طالب يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد ، فيأبى ، حتى رأيت أبا طالب غضب ، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب ، وجعلن يقلن : إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا ، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ، ثم رجع إلينا مرعوبا ، فقلن : ما دهاك ؟ قال : إني أخشى أن يكون بي لمم ، فقلن : ما كان الله ليبتليك بالشيطان ، وفيك من خصال الخير ما فيك ، فما الذي رأيت ؟ قال : " إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح : وراءك يا محمد لا تمسه " قالت : فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ .

                                                                                      وقال أبو أسامة : حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، قال : كان صنم من نحاس يقال له إساف أو نائلة يتمسح المشركون به إذا طافوا ، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه ، فلما مررت مسحت به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمسه " . قال زيد : فطفنا ، فقلت في نفسي : لأمسنه حتى أنظر ما يكون ، فمسحته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم تنه " . هذا حديث حسن . وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده : قال زيد : فوالله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه .

                                                                                      وقال جرير بن عبد الحميد ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم شهد مع المشركين مشاهدهم ، فسمع ملكين خلفه ، وأحدهما يقول لصاحبه : اذهب بنا [ ص: 74 ] حتى نقوم خلف رسول الله ، فقال : كيف نقوم خلفه ، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل ؟ قال : فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم . تفرد به جرير ، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة . وهو منكر .

                                                                                      وقال إبراهيم بن طهمان : أخبرنا بديل بن ميسرة ، عن عبد الكريم ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبيه ، عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعا قبل أن يبعث ، فبقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك . قال : فنسيت يومي والغد ، فأتيته في اليوم الثالث ، فوجدته في مكانه ، فقال : يا فتى لقد شققت علي ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك " . أخرجه أبو داود .

                                                                                      وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : أخبرنا أبو محمد بن البن ، قال : أخبرنا جدي ، قال : أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي العلاء ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر ، قال : أخبرنا علي بن أبي العقب ، قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن عائذ ، قال : حدثني الوليد ، قال : أخبرني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عمن حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا بأعلى مكة ، إذا براكب عليه سواد فقال : هل بهذه القرية رجل يقال له أحمد ؟ فقلت ما بها أحمد ولا محمد غيري ، فضرب ذراع راحلته فاستناخت ، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال : أنت نبي الله ؟ قلت : ونبي أنا ؟ قال : نعم . قلت : بم أبعث ؟ قال بضرب أعناق قومك ، قال : فهل من زاد ؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها ، [ ص: 75 ] فقالت : حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك ، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري ، فأتيته بالزاد ، فأخذه وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما ، وحمله لي في ثوبه " .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية