الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وعلى الحكام أن لا يحكموا إلا بالعدل . " والعدل " هو ما أنزل الله كما قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } ثم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأوجب الله طاعة أولي الأمر مع طاعة الرسول وأوجب على الأمة إذا تنازعوا أن يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى كتاب الله وسنة رسوله . فإن الله سبحانه وتعالى هو الحكم الذي يحكم بين عباده والحكم له وحده وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم ; فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين وكانت له سعادة الدنيا والآخرة ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب ;

                قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وفي صحيح مسلم عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك ; إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } . وقال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فبين سبحانه وتعالى أنه هداهم وبين لهم الحق ; لكن بعضهم يبغي على بعض مع معرفته بالحق فيتبع هواه ويخالف أمر الله وهو الذي يعرف الحق ويزيغ عنه كما قال تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعث الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقال يوسف : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فالحكم لله وحده ورسله يبلغون عنه ; فحكمهم حكمه وأمرهم أمره وطاعتهم طاعته فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته ; فإن ذلك هو حكم الله على خلقه .

                والرسول يبلغ عن الله قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم . ولو أدركه موسى أو عيسى وغيرهما من الرسل كان عليهم اتباعه كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } وروي عن غير واحد من السلف - علي وابن عباس وغيرهما - قالوا : لم [ ص: 364 ] يبعث الله نبيا من عهد نوح إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . وهو سبحانه أخذ الميثاق على النبي المتقدم أن يصدق من يأتي بعده وعلى النبي المتأخر أن يصدق من كان قبله ; ولهذا لم تختلف الأنبياء بل دينهم واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { إنا معشر الأنبياء ديننا واحد } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } أي ملتكم ملة واحدة كقولهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي ملة .

                وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } فدين الأنبياء واحد وهو دين الإسلام كلهم مسلمون مؤمنون كما قد بين الله في غير موضع من القرآن ; لكن بعض الشرائع تتنوع فقد يشرع في وقت أمرا لحكمة ثم يشرع في وقت آخر أمرا آخر لحكمة ; كما شرع في أول الإسلام [ ص: 365 ] الصلاة إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة إلى الكعبة فتنوعت الشريعة والدين واحد وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام وكذلك السبت لموسى من دين الإسلام ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة إلى الكعبة فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام ولا هو متبع لأحد من الأنبياء ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه كما قال : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ .

                والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ; فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتى به من الكتاب والسنة فما جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه ; - وليس لأحد الخروج عنه وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون وهو الكتاب والسنة . وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة كما قال جابر بن عبد الله : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا - يعني السيف - من خرج عن هذا . يعني المصحف } قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد . فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد . فالكتاب والعدل متلازمان والكتاب هو المبين للشرع ; فالشرع هو العدل والعدل هو الشرع ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع ولكن كثيرا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع ; بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطا وإما عمدا وافتراء وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة ; ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل قال تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فالذي أنزل الله هو القسط والقسط هو الذي أنزل الله وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فالذي أراه الله في كتابه هو العدل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية