الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      ( المسألة الثالثة ) إذا احتاج أحدهما إلى السقي وكان على الآخر ضرر وفيها صورتان ( أحدهما ) أن يكون السقي يضر بالنخل وينفع الثمرة ، فأراد البائع السقي فوجهان . قال أبو إسحاق يقال للمشتري : اسمح للبائع بالسقي . فإن سمح فذاك ، وإلا قلنا للبائع : اسمح بترك السقي . فإن سمح فذاك وإن أبى فسخنا العقد بينهما ، وقال ابن أبي هريرة : يجبر المشتري على ذلك وللبائع أن يسقي ، والأجرة على البائع . وحكى الإمام وجها ثالثا بمراعاة جانب المشتري لأن البائع ألزم تسليم الشجرة على كمالها . قال : [ ص: 111 ] وحقيقة الأوجه تئول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانب المشتري ، ومنهم من يرعى جانب البائع . وأبو إسحاق لا يقدم أحد الحقين على الآخر .

                                      ( الصورة الثانية ) أن يكون السقي يضر بالثمرة وينفع الشجرة فأراد المشتري السقي . قال أبو إسحاق : يقال للبائع ، اسمح في أن يسقي المشتري . فإن سمح فذاك ، وإلا قلت للمشتري : اسمح في ترك البائع فإن سمح فذاك وإن أبى فسخنا البيع بينهما وقال ابن أبي هريرة : أجبر البائع على ذلك وأوجب الأجرة على المشتري ، لأنه على أن لا يضر بغيره وفيه الوجه الثالث الذي حكاه الإمام ويكون بينا لمراعاة جانب البائع ، وفي كل من الصورتين لو اتفقا على السقي أو تركه جاز ، قاله صاحب البيان وغيره ، وقد يخص المصنف هاتين الصورتين فيما ذكره وتبين بهذا التفصيل أن قوله : وتجب الأجرة على من يسقي من كلام ابن أبي هريرة ، وأما مراده بمن يسقي : البائع في الصورة الأولى والمشتري في الصورة الثانية . ويجوز أن يكون قوله : وتجب أجرة السقي على من يسقي كلاما مبتدأ غير مختص بابن أبي هريرة ، يعني حيث أوجبنا السقي فهو على من ينتفع به ، لا كمن باع ثمرة بعد بدو الصلاح ، فإنه يسقي ، والمنفعة للمشتري ، ويشمل ذلك ما إذا سقى البائع أو المشتري أو هما جميعا فتجب الأجرة عليهما ، كما صرح به الروياني وهو الظاهر ، والذي يسقي في الصورتين هو المطالب الذي أجبرنا الممتنع لأجله ، ومعنى الإجبار إجباره على تمكين الآخر من السقي ، وقول المصنف : " لأن منفعة السقي تحصل له " تعليل ظاهر في الطرفين ، وقد فهم ابن الرفعة من كلام الماوردي في هذه الصورة الثانية ، وقوله : إن لصاحب الثمرة منعه ، فإذا منعه كان لصاحب النخل فسخ البيع ففهم ابن الرفعة من ذلك قولا آخر . قال : وبذلك يكمل أربعة أوجه .

                                      ( ثالثها ) إن تراضيا على أحد الأمرين فذاك ، وإلا فسخه الحاكم .

                                      ( ورابعها ) الأمر كذلك إلا أن المتولي للفسخ البائع إن أراد ، وقد بقي من هذه المسائل مسألة ذكرها الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما ، وتركها المصنف لوضوحها ، ولا خلاف فيها ، وهي إذا كان [ ص: 112 ] السقي يضر بالثمرة والنخل جميعا كان لكل منهما منع الآخر لأنه يدخل الضرر على صاحبه بغير منفعة تعود إليه فهو سفه وتضييع ، قاله الروياني ، وهذا إنما يتصور في غير النخل .

                                      ( أما ) النخل فينفعه السقي أبدا ، فلو قال صاحب الثمرة : أريد أن آخذ الماء الذي كنت أستحقه لسقي ثمرتي فأسقي به غيرها من الثمار أو الزروع لم يكن له ذلك ، وهكذا لو أخذ ثمرته قبل وقت جذاذها لم يكن له أن يأخذ الماء الذي كان يستحقه إلى وقت الجذاذ ، لأنه إنما يستحق من الماء ما فيه صلاح تلك الثمرة دون غيرها ، فقد كملت المسائل التي في أحوال السقي ستا شمل كلام المصنف خمسا ، وترك واحدة ، ومسائل ترك السقي سبعا ذكر المصنف منها في آخر كلامه واحدة وترك ستا ، وكلها مندرجة في كلام الماوردي ، والله أعلم .

                                      ( فائدة ) قال الشيخ أبو حامد وغيره : قالوا : هلا قلتم في هذه المسائل : السقي على المشتري صاحب الشجرة كمن باع ثمرة منفردة عن الأصل بعد بدو صلاحها وعطشت ، حيث تجب أجرة السقي على صاحب الأصل ، وفرق هو وغيره من الأصحاب بأنه في مسألة البيع بعد بدو الصلاح يجب عليه تسليم الثمرة كاملة ، وذلك إنما يكون بالسقي وههنا الواجب على البائع تسليم النخل ، وقد سلمها ولم يملك الثمرة من جهة المشتري ، فكان بخلافه ، قال ابن الرفعة : وحيث نقول بإجبار المشتري فلا خيار له ، أي في حال انتفاع الثمرة بالسقي .

                                      ( فرع ) حيث جعلنا للبائع السقي ، قال الشافعي والأصحاب : وإنما له أن يسقي القدر الذي فيه صلاحه ، وليس له أن يسقي أكثر من المعهود بحيث يتضرر به صاحب النخل ، فإنه كما يحصل الضرر بالعطش المفرط يحصل بالري المفرط ، فإن اختلفا في ذلك فقال المشتري : في كل عشرة أيام سقية ، وقال البائع : في كل خمسة أيام سقية ، فالمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة فما احتاج إليه أجبر الآخر عليه ، ولو قال أهل الخبرة : إن الثمرة لا تفسد بترك السقي ، بل تسلم الثمرة من غير سقي غير أنها لو سقيت لظهرت زيادة عظيمة ، [ ص: 113 ] والشجر يتضرر بها ، قال الإمام : فهذا فيه احتمال عندي ، يجوز أن يقال : يمنع البائع ، فإن الزيادات لا تنضبط ، فالمرعي الاقتصاد . ويجوز أن يقال : أن يسقي لمكان الزيادة على مذهب من يراعي جانبه . وهذا بين أن محل الخلاف المتقدم عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة إذا كان السقي يضر أحدهما فعله ويضر الآخر تركه وفي هذه المسألة لم يتعارض ضرران ، وإنما ضرر وزيادة نفع ، والذي ينبغي ترجيح اجتناب الضرر ومنع البائع من السقي ، والله أعلم . وأطلق الرافعي احتمال الإمام متى كان السقي يضر بواحد ، وتركه يمنع حصول زيادة للآخر ، وذلك يشمل الصورة المذكورة وعكسها في كل منهما ، هل يلحق ذلك بتقابل الضرر ؟ فيه احتمالان ، ولم أرهما في النهاية إلا في الحالة الواحدة ، وجعل الغزالي الاحتمالين المذكورين وجهين ، والمراد أنه على أحد الاحتمالين يأتي الخلاف السابق بين أبي إسحاق وابن أبي هريرة ، وعلى الاحتمال الآخر يتعين السقي ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) القولان اللذان أطلقهما المصنف ، هل محلهما فيما إذا كان السقي متعذرا أو مطلقا ؟ كلام الغزالي والإمام يقتضي الأول وجزم في حالة الإمكان بوجوب السقي أو القطع على البائع ، وكلام الشافعي يقتضي الثاني ، لكنه في حالة انقطاع الماء المعد لذلك وامكان غيره ، ورأى ابن الرفعة كذلك تنزيل القولين على حالة إمكان السقي من غير الماء المعتاد ، وتنزيل الجزم بوجوب أحد الأمرين على ما إذا كان السقي ممكنا بالماء المعد لذلك . واستنبطه من كلام الشافعي ، وقوله : أخذ صاحبه بقطعه إلا أن يسقيه متطوعا ، أخذ من ذلك أن الواجب عند إمكان السقي القطع عينا ، وله أن يسقطه بالسقي إلا أن الواجب أحد الأمرين ، كما يقول ذلك في المولى ، فإن لم يمكن السقي بحالة من الأحوال تعين وجوب القطع ، لأنه لا مسقط له ، ولا جرم كان هو الأصح عند الكرخي وغيره . وقال النووي : إن هذين القولين فيما إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة ، فإن لم يكن وجب القطع قولا واحدا ، كذا قاله الإمام وصاحب التهذيب [ ص: 114 ] فرع ) ظاهر كلام الأصحاب أنه يجب السقي بالماء الذي جرت العادة أن يسقي منه تلك الأشجار ، ولو كان ملك المشتري بأن كان من بئر دخلت في العقد ، وقلنا بأنه يملك ماءها كما هو المذهب ، ولما كان استحقاق البائع لذلك من جهة الشرع اغتفر ، بخلاف ما لو شرط لنفسه انتفاعا بملك المشتري حيث يفسد العقد ، قال ابن الرفعة : لكن هذا يقتضي عدم استحقاق السقي إذا كانت الثمرة غير مؤبرة وشرطها البائع لنفسه فليتأمل .

                                      ( قلت : ) لا يقتضي ذلك فإن شرطه الثمرة غير المؤبرة لنفسه يصيرها بمنزلة الثمرة المؤبرة ، وحينئذ يكون وجوب السقي بالشرع وجوب الإبقاء ، وليس ذلك ، كما إذا شرط الانتفاع بملك المشتري ومن كون السقي واجبا من الماء المعتاد وإن كان ملك المشتري يستفاد ، معنى قول المصنف تجب أجرة السقي على من يسقي ، ولم يقل : تجب مؤنة السقي ، لأن الماء من جملة المؤنة ، وهو على المشتري وفي الصورة المذكورة وإنما يجب على من يسقي بها الأجرة في نقله ، وما أشبهه ، نعم تجب عليه أيضا الآلات التي يستقي بها المشتري إنما يلزم التمكين من الماء خاصة ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) أما الأرجح من هذه الأوجه صحح الرافعي قول الفسخ كما هو قول أبي إسحاق . وصحح الغزالي في الوسيط مراعاة جانب المشتري والذي يقتضيه إطلاق نص الشافعي يشهد لما قاله ابن أبي هريرة فإنه قال : وإذا كان لا يصلحها إلا السقي فعلى المشتري تخلية البائع . وما يكفي من السقي فهذا في هذه الصورة موافق لابن أبي هريرة في إجبار المشتري ، فيحتمل أن يكون في عكسها يجبر البائع كما يقوله ابن أبي هريرة وهو الأقرب . ويحتمل أن يكون يقول بمراعاة جانب البائع مطلقا . وقال ابن الرفعة : إن ظاهر النص على ما صححه في الوجيز

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية