الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1727 [ ص: 172 ] [ ص: 173 ] حديث رابع لأبي الزبير .

مالك عن أبي الزبير عن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أغلقوا الباب ، وأوكئوا السقاء ، وخمروا الإناء ، وأكفئوا الإناء ، وأطفئوا المصباح ، فإن الشيطان لا يفتح غلقا ، ولا يحل وكاء ، ولا يكشف إناء ، وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم .

التالي السابق


هكذا قال يحيى في هذا الحديث : تضرم على الناس بيتهم ( وتابعه ابن القاسم وابن وهب ، وقال ابن بكير بيوتهم ، وقال القعنبي : بيتهم ) أو بيوتهم على الشك ، والفويسقة الفأرة سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسقة في هذا الحديث وغيره ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : خمس فواسق تقتل في الحل والحرم فذكر [ ص: 174 ] منهن الفأرة وكل من آذى مسلما إذا تابع ذلك وكثر منه وعرف به فهو فاسق ، والفأرة أذاها كثير ، وأصل الفسق الخروج عن طاعة الله ، ومن الخروج عن طاعة الله أذى المسلم ، والفأرة مؤذية ، فلذلك سميت فاسقة وفويسقة ، والرجل الظالم الفاجر فاسق ، والمؤذي بيده ولسانه وفعله وسعيه فاسق ، قال الله - عز وجل - : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا . وقوله : " تضرم " أي : تشعل وتحرق . وقال ابن وهب : أما قوله : " الفويسقة تضرم على الناس بيتهم " فإنما تحمل الفتيلة وهي تتقد حتى تجعلها في السقف .

وقال أحمد بن عمران الأخفش : الفويسقة الفأرة ، وقوله : " تضرم على الناس بيتهم " تشعل البيت عليهم بالنار ، وذلك أنها إذا تناولت طرف الفتيلة وفيها النار فلعلها تمر بثياب أو بحطب فتشعل النار فيها فيلتهب البيت على أهله ، وقد أصاب ذلك أهل بيت بالمدينة ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغد فقال : إن هذه النار عدو لكم ، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ، قال : حدثنا بذلك أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 175 ] ( قال أبو عمر ) : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وغيره أنه قال : لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رؤوفا رحيما .

حدثنا سعيد بن نصر حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الترمذي قال : حدثنا الحميدي ( ح ) .

وحدثنا عبد الله بن محمد ( حدثنا محمد ) بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ( ح ) .

وحدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا وهب بن مسرة ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون .

وحدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أنه قال : الفأرة فويسقة ، قيل له : لم قيل لها الفويسقة ؟ قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استيقظ وقد أخذت فتيلة لتحرق بها البيت .

[ ص: 176 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا عمرو بن أبي طلحة ، حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم ، فقال : إذا نمتم فأطفئوا سرجكم ، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم .

وأما قوله في هذا الحديث : وأوكئوا السقاء فالسقاء القربة وشبهها ، والوكاء الخيط الذي تشد به ، فكأنه قال - عليه السلام - : اربطوا فم الإناء إذا كان مما يربط مثله وشدوه بالخيط ، وأما قوله : أكفئوا الإناء ، فإنه يريد اقلبوه وكبوه وحولوه إذا كان فارغا لا تدعوه مفتوحا ضاحيا ، يقال : كفأت الإناء إذا قلبته ، وهي كلمة مهموزة ، وأنا أكفؤه ، قال ابن هرمة :


عندي لهذا الزمان آنية أملؤها مرة وأكفؤها



[ ص: 177 ] وكذلك قوله : أطفئوا المصباح مهموز أيضا ، قال الله - عز وجل - : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله .

وقال الشاعر :


برزت في غايتي وشايعني موقد نار الوغى ومطفؤها



وقال غيره :


وعادلة هبت تلوم ولومها لنيران شوقي موقد غير مطفئ

.

وأما قوله : وخمروا الإناء ، فالتخمير هاهنا التغطية ، وما خمرته فقد غطيته ، وإنما يكفأ من الأواني ما لا يمكن تغطيته وتخميره .

وقوله في حديث مالك : " خمروا الإناء أو أكفئوا الإناء " يحتمل أن يكون التخيير في تخمير الإناء وتحويله ، ويحتمل أن يكون شكا من المحدث .

وفي هذا الحديث من العلم أيضا أن الشيطان لم يعط مع ما به من القوة أن يفتح غلقا ، ولا يحل وكاء ، ولا يكشف إناء ; رحمة من الله تعالى بعباده ورفقا بهم .

[ ص: 178 ] حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب قال : أخبرني ابن لهيعة عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله أن أبا حميد الساعدي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن من البقيع لم يخمره ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلا خمرته ولو بعود تعرضه عليه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج عن عطاء عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أطفئ مصباحك واذكر اسم الله ، وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله ، وأوك سقاءك واذكر اسم الله .

وبه عن يحيى قال : حدثنا ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إياكم والسمر بعد هدأة الرجل ، فإن أحدكم [ ص: 179 ] لا يدري ما يبث الله من خلقه ، وأغلقوا الأبواب وأوكئوا السقاء وخمروا الإناء والآنية ، وأطفئوا المصباح .

قال أبو عمر : هدأة الرجل مهموزة ، قال الشاعر :


يؤرقني ذكراك في كل ليلة كأني قد أقسمت في ترك مهدئي
أعاذل , إن العذل مما يزيدني ولوعا بشوقي فاترك العذل واهدئي



وأنشد أبو يزيد :


ونار قد حضأت بعيد هدئي بدار ما أريد بها مقاما سوى
ترحيل راحلة وعين أكالئها مخافة أن تناما

وقال إبراهيم بن هرمة :


لحود تعاطيك بعد رقدتها إذا تلاقي العيون مهدؤها

حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني حيوة بن شريح وابن لهيعة عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا سمعتم النداء وأحدكم على فراشه أو أينما كان فاهدءوا ، فإن الشياطين إذا سمعت النداء اجتمعوا وعشوا .

[ ص: 180 ] قال : وحدثنا حيوة بن شريح عن عقيل ، عن ابن شهاب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا جنح الليل فاحبسوا أولادكم ; فإنه يبث في الليل ما لا يبث في النهار .

وقال عقيل : يتقى على المرأة أن تتوضأ عند ذلك .

وروى الليث بن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي ، عن يحيى بن سعيد ، عن يحيى بن عبد الله بن الحكم ، عن القعقاع بن حكيم ، عن جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : غطوا الإناء وأوكئوا السقاء ; فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء ، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه ذلك الوباء ، ووقع فيه من ذلك الداء قال الليث : والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول .

وروى أبو عاصم النبيل عن شبيب بن بشر عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخرج ثم خرج ، فإذا بتور مغطى ، فقال : من صنع هذا ؟ فقال عبد الله : أنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم علمه تأويل القرآن .

[ ص: 181 ] أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الرجل يضع الوضوء بالليل غير مخمر ، فقال : لا يعجبني إلا أن يخمر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمروا الآنية .

وقال أبو داود : قلت لأحمد بن حنبل : الماء المكشوف يتوضأ به ؟ قال : إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغطى الإناء ، ولم يقل : لا تتوضئوا به .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم ، حدثنا محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن عطاء بن يسار ، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا سمعتم نباح الكلاب أو نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشياطين ; فإنهم يرون ما لا ترون ، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل ، فإن الله يبث من خلقه في ليله ما شاء ، وأجيفوا الأبواب واذكروا اسم الله عليها ، فإن الشيطان لا يفتح بابا أجيف ، واذكروا اسم الله عليه ، وغطوا الجرار وأكفئوا الآنية ، وأوكئوا القرب .

[ ص: 182 ] وحدثنا سعيد وعبد الوارث قالا : حدثنا قاسم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أسامة ، حدثنا أبو يزيد بن أبي بردة ، ( عن أبي بردة ) عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها .

حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن بدر بن النفاح أبو الحسن الباهلي ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن كثير بن شنظير ، عن عطاء ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمروا الآنية وأوكئوا الأسقية ، وأجيفوا الأبواب ، وكفوا صبيانكم عند المساء ; فإن للجن انتشارا وخطفة .

قال أبو عمر في معنى قوله هذا : " وخطفة " ما قد ذكره ابن أبي الدنيا قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، قال : حدثنا خالد بن الحارث الهجيمي ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن [ ص: 183 ] رجلا من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء ففقد ، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب ( فحدثته بذلك ) فسأل عن ذلك قومها فصدقوها ، فأمرها أن تتربص أربع سنين ، فتربصت ، ثم أتت عمر فأخبرته بذلك ، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها ، فأمروها أن تتزوج ، ثم إن زوجها الأول قدم فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب ، فقال عمر : يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته ؟ قال : إن لي عذرا . قال : فما عذرك ؟ قال : خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء ، فسبتني الجن أو قال : أصابتني الجن ، فكنت فيهم زمانا ، فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ، فكنت فيمن أصابوا ، فقالوا : ما دينك ؟ قلت : مسلم ، قالوا : أنت على ديننا لا يحل لنا سبيك ، فخيروني بين المقام وبين القفول ، ( فاخترت القفول ) ، فأقبلوا معي بالليل يسير يحدو بي وبالنهار إعصار ريح أتبعها ، قال : فما كان طعامك ؟ قال : الفول وما لم يذكر اسم الله عليه ، قال : فما كان شرابك ؟ قال : الجدف ، قال قتادة : الجدف ما لم يخمر من الشراب ، قال : فخيره عمر بين المرأة والصداق .

[ ص: 184 ] قال أبو عمر : هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين مشهور . وقد روى معناه المدنيون في المفقود إلا أنهم لم يذكروا معنى اختطاف الجن للرجل ، ولا ذكروا تخيير المفقود بين المرأة والصداق ، وإنما ذكرناه هاهنا من أجل تخمير أواني الشراب والطعام ، وهي لفظة لم أرها في هذا الحديث في غير هذا الإسناد ، وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده من غير رواية قتادة في باب صيفي والحمد لله .

قال أبو عمر : يروى هذا الجدف في هذا الحديث الجدف بالدال ، وقال أبو عبيد : هو كما جاء في الحديث ما لا يغطى من الشراب ، ( قال ) وقد قيل : هو نبات باليمن لا يحتاج أكله إلى شرب الماء ، وأنكر ابن قتيبة هذا وزعم أنه زبد الشراب ورغوة اللبن ، قال : وسمي جدفا لأنه يقطع ويرمى عن الشراب ، قال : وقد يجوز أن يقال لما لا يغطى من الشراب جدف ، كأن غطاه جدف أي قطع .




الخدمات العلمية