الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 159 ] إسلام الجن قال الله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ( 29 ) ) [ الأحقاف ] الآيات ، وقال : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( 130 ) ) [ الأنعام ] وأنزل فيهم سورة الجن .

                                                                                      وقال أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها . قال : فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله وهو بنخلة ، عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ، فأنزلت ( قل أوحي إلي ( 1 ) ) [ الجن ] . متفق عليه .

                                                                                      ويحمل قول ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم ، [ ص: 160 ] يعني أول ما سمعت الجن القرآن ، ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما في خبر ابن مسعود ، وابن مسعود قد حفظ القصتين ، فقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر ، عن عبد الله قال : هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه أنصتوا ، قالوا : صه ، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة ، فأنزل الله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ( 29 ) ) [ الأحقاف ] الآيات .

                                                                                      وقال مسعر ، عن معن ، قال : حدثنا أبي ، قال : سألت مسروقا : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال : حدثني أبوك ، يعني ابن مسعود : أنه آذنته بهم شجرة . متفق عليه .

                                                                                      وقال داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة ، فقلنا اغتيل ، استطير ، ما فعل ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح أو قال في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، فذكروا الذي كانوا فيه ، فقال : " إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم " ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . رواه مسلم .

                                                                                      وقد جاء ما يخالف هذا ، فقال عبد الله بن صالح : حدثني الليث ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو عثمان بن سنة الخزاعي من أهل الشام ، أنه سمع ابن مسعود يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ، وهو بمكة " من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل " . فلم يحضر منهم أحد غيري حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن [ ص: 161 ] فغشيته أسودة كثيرة ، حالت بيني وبينه ، حتى سمعت ما أسمع صوته ، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ، ذاهبين ، حتى ما بقي منهم رهط ، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ، ثم أتاني فقال : " ما فعل الرهط ؟ فقلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث . أخرجه النسائي من حديث يونس .

                                                                                      وقال سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، أن ابن مسعود أبصر زطا في بعض الطريق فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء الزط . قال : ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن ، وكانوا مستثفرين يتبع بعضهم بعضا . صحيح .

                                                                                      يقال : استثفر الرجل بثوبه ، إذا أخذ ذيله من بين فخديه إلى حجزته فغرزه . وكذا يقال في الكلب ، إذا جعل ذنبه بين فخذيه ، ومنه قوله للحائض : استثفري .

                                                                                      وقال عثمان بن عمرو بن فارس ، عن مستمر بن الريان ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن مسعود ، قال : انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، حتى أتى الحجون فخط علي خطا ، ثم تقدم إليهم ، فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : إني أنا أرحلهم عنك ، فقال : إني لن يجيرني من الله أحد .

                                                                                      وقال زهير بن محمد التميمي ، عن ابن المنكدر ، عن جابر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة " الرحمن " ، ثم قال : " ما لي أراكم سكوتا ، للجن كانوا أحسن ردا منكم ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 13 ) ) [ الرحمن ] ، إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا [ ص: 162 ] نكذب ، فلك الحمد " . زهير ضعيف .

                                                                                      وقال عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص ، عن جده سعيد ، قال : كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه . فذكر الحديث ، وفيه : " أتاني جن نصيبين فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بروثة ولا بعظم إلا وجدوا طعاما " . أخرجه البخاري . ويدخل هذا الباب في باب شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه .

                                                                                      ومنه حديث محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه ، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ، حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان : ( رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ( 35 ) ) [ ص ] ، فرددته خاسئا . وفي لفظ : فأخذته فذغته ، يعني خنقته ، متفق عليه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية