الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة فإن غسل إحدى الرجلين فأدخلها الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح عليه حتى يخلع ما لبسه قبل كمال الطهارة ثم يعيده إلى رجله ، والدليل عليه ما روى أبو بكرة رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما } )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث أبي بكرة فحديث حسن تقدم بيانه في مسألة التوقيت ، واسم أبي بكرة نفيع بضم النون وفتح الفاء وهو نفيع بن الحارث كني بأبي بكرة لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، توفي بالبصرة سنة إحدى وخمسين وقيل اثنتين وخمسين رضي الله عنه وقوله : ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة ، احترز بكاملة عما إذا غسل إحدى الرجلين ولبس خفها ثم غسل الأخرى ولبسها فإنه قد يسمى لبسا على طهارة مجازا ، فأراد نفي هذا المجاز والتوهم ، ولو حذف " كاملة " لصح كلامه لأن حقيقة الطهارة لا تكون إلا بالفراغ ، ويقال لبس الخف والثوب وغيرهما بكسر الباء يلبسه بفتحها . أما حكم المسألة : فلا يصح المسح عندنا إلا أن يلبسه على طهارة كاملة ، فلو غسل أعضاء وضوئه إلا رجليه ثم لبس الخف أو لبسه قبل غسل شيء ثم أكمل الوضوء وغسل رجليه في الخف صحت طهارته ، لكن لا يجوز المسح إذا أحدث ، فطريقه أن يخلع الخفين ثم يلبسهما ، ولو غسل إحدى رجليه ثم لبس خفها ثم غسل الأخرى ولبس خفها اشترط نزع الأول ثم لبسه على الطهارة . قال أصحابنا : ولا يشترط نزع الثاني ، وحكى الروياني وغيره وجها عن ابن سريج أنه يشترط لأن كل واحد من الخفين مرتبط بالآخر ، [ ص: 541 ] ولهذا لو نزع أحدهما وجب نزع الآخر ، وهذا الوجه شاذ ليس بشيء لأن المطلوب لبسهما على طهارة كاملة ، وقد وجد ، والترتيب في اللبس ليس بشرط بالإجماع .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في اشتراط الطهارة الكاملة في لبس الخف . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه شرط ، وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين وإسحاق ، وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى بن آدم والمزني وداود رضي الله عنهم : يجوز لبسهما على حدث ثم يكمل الطهارة ، فإذا أحدث بعد ذلك جاز المسح . واختاره ابن المنذر فيما إذا غسل إحدى رجليه ثم لبس خفها قبل غسل الأخرى . واحتج هؤلاء بأنه أحدث بعد لبس وطهارة كاملة ، ولأن استدامة اللبس كالابتداء ، ولهذا لو حلف لا يلبس وهو لابس فاستدام حنث ، فإذا لبس على حدث ثم تطهر فاستدامته اللبس على طهارة كالابتداء ، قالوا : ولأن عندكم لو نزع ثم لبس استباح المسح ولا فائدة في النزع ثم اللبس ، واحتج أصحابنا بحديث أبي بكرة رضي الله عنه الذي ذكره المصنف رحمه الله ، وعن المغيرة رضي الله عنه قال : { صببت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما } ، رواه البخاري ومسلم ، وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر } رواه البيهقي بإسناد جيد وعن ابن عمر رضي الله عنهما " سألت عمر رضي الله عنه أيتوضأ أحدنا ورجلاه في الخفين ؟ قال نعم : إذا أدخلهما وهما طاهرتان " رواه البيهقي بإسناد صحيح .

                                      فإن قالوا دلالة هذه الأحاديث بالمفهوم ولا نقول به . قلنا هو عندنا حجة وذلك مقرر في موضعه ، وجواب آخر وهو أن المسح رخصة واتفقوا على اشتراط الطهارة له ، واختلفوا في وقتها وجاءت هذه الأحاديث مبينة لجواز المسح لمن لبس على طهارة كاملة فلا يجوز غيره إلا بدليل صريح . فإن قالوا : إذا لبس خفا بعد غسل رجليه ثم الآخر كذلك فقد لبس على طهارة . قلنا : [ ص: 542 ] ليس كذلك فإن حقيقة الطهارة لا تكون إلا بغسل الرجلين ، فلبس الخف الأول كان سابقا على كمال الطهارة . وسلك إمام الحرمين في الأساليب طريقة حسنة فقال : تقدم الطهارة الكاملة على المسح شرط بالاتفاق ، والطهارة تراد لغيرها . فإن تخيل متخيل أن الطهارة شرط للمسح كان محالا لأن المسح يتقدمه الحدث وهو ناقض للطهارة فاستحال تقديرها شرطا فيه مع تخلل الحدث ، فوضح أن الطهارة شرط في اللبس ، وكل ما شرطت الطهارة فيه شرط تقديمها بكمالها على ابتدائه . ثم اشتراط الطهارة في اللبس غير معقول المعنى لأن اللبس في نفسه ليس قربة . وإذا أحدث بطلت طهارته ولا تنقطع الطهارة في جواز المسح وهذا خارج عن مأخذ المعنى ، والمسح رخصة مستثناة فتثبت حيث يتحققه ، وإذا تردد فيه تعين الرجوع إلى الأصل وهو غسل الرجل وليس مع المخالفين نص وقد ثبتت الرخصة في محل الإجماع . وأما الجواب عن دليلهم الأول فهو أن السنة دلت على اشتراط اللبس على طهارة ولم يحصل ذلك . وعن الثاني أن الاستدامة إنما تكون كالابتداء إذا كان الابتداء صحيحا وليس كذلك هنا . وعن الثالث أن الشرع ورد باشتراط اللبس على طهارة ، والنزع ثم اللبس محصلان لذلك فلم يكن عبثا بل طاعة ، ولهذا نظائر كثيرة منها أن المحرم لو اصطاد صيدا وبقي في يده حتى حل من إحرامه يلزمه إرساله ، ثم له اصطياده بمجرد إرساله ، ولا يقال لا فائدة في إرساله ثم أخذه والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية