الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4607 4608 4609 4610 ص: حدثنا محمد بن حميد وفهد، قالا: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: أخبرني موسى بن عقبة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأنا أسمع- عن ليلة القدر، فقال: هي في كل رمضان". .

                                                قال أبو جعفر -رحمه الله-: ففي هذا: أنها في كل رمضان.

                                                فقال قوم: هذا دليل على أنها قد تكون في أوله، وفي أوسطه، كما تكون في آخره.

                                                وقد يحتمل قوله: "في كل رمضان" هذا المعنى، ويحتمل أنها في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة، مع أن أصل الحديث موقوف، كذلك رواه الأثبات عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر مثله، ولم يرفعه.

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق الهمداني ... فذكر بإسناده مثله.

                                                وقد روى هذا الحديث أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، بلفظ غير هذه اللفظ:

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير قال: "سألت ابن عمر -رضي الله عنهما- عن ليلة القدر، فقال: هي في رمضان كله". .

                                                فإن كان هذا هو لفظ هذا الحديث؛ فقد ثبت به أن معنى قوله: "هي في كل رمضان" يريد أنها في كل الشهر. .

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناد حديث فهد بن سليمان صحيح.

                                                وسعيد بن أبي مريم المصري شيخ البخاري وما بعده كلهم من رجال الجماعة.

                                                [ ص: 214 ] وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي .

                                                وأخرجه أبو داود : نا حميد بن زنجويه النسائي، ثنا سعيد بن أبي مريم، نا محمد بن جعفر بن أبي كثير ... إلى آخره نحوه سواء.

                                                قوله: "وأنا أسمع" جملة اسمية وقعت حالا.

                                                قوله: "عن ليلة القدر" سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في السنة؛ لقوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم ويقال: سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها.

                                                قوله: "ففي هذا" أي في هذا الحديث أنها -أي ليلة القدر- في كل رمضان.

                                                قوله: "فقال قوم" وهم: الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وأبو حنيفة: "هذا دليل" -أي هذا الحديث يدل على أن ليلة القدر قد تكون في العشر الأول من رمضان، وقد تكون في العشر الأوسط منه، كما تكون في العشر الأخير منه.

                                                وقال أبو عمر بن عبد البر : مذهب أربعة من الصحابة -رضي الله عنهم-: أنها في كل رمضان، وهم: ابن عمر ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، وابن عباس .

                                                وهو قول الحسن .

                                                وذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: أنا حجاج، قال: أنا حماد بن سلمة، قال: أنا ربيعة بن كلثوم قال: "سأل رجل الحسن -وأنا عنده- فقال: يا أبا سعيد: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، إنها ليلة فيها يفرق كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها، وقد قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وقال: [ ص: 215 ] إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، وهذا يدل على أنه لا بد أن تكون في رمضان كله. والله أعلم.

                                                قوله: "وقد يحتمل قوله: في كل رمضان ... " إلى آخره. أشار الطحاوي: بهذا الكلام إلى أن هذا الحديث لا يدل قطعا على أن ليلة القدر تكون في رمضان كله؛ لأن هذا اللفظ يحتمل معنيين.

                                                الأول: هو ما ذكره هؤلاء القوم.

                                                والثاني: أن يكون معناه: أنها تكون في كل رمضان يكون إلى يوم القيامة.

                                                ومثل هذا الاحتمال يدفع الدلالة القطعية على المدعى، على أن أصل هذا الحديث موقوف على عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-، كذلك رواه الحفاظ الأثبات عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر موقوفا.

                                                وقال البيهقي: رواه سفيان وشعبة ، عن أبي إسحاق موقوفا.

                                                وذكر المنذري أن أبا داود ذكر أن سفيان وشعبة روياه موقوفا على ابن عمر، لم يرفعاه إلى النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه الطحاوي موقوفا أيضا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود ، عن شعبة بن الحجاج ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر موقوفا عليه.

                                                وحديث سفيان عن أبي إسحاق أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : نا وكيع، قال: ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: "ليلة القدر في كل شهر رمضان".

                                                قلت: إن كان الطحاوي يريد بقوله: مع أن أصل الحديث موقوف وهن استدلال القوم المذكورين فيما ذهبوا إليه؛ فليس ذلك بشيء؛ فإن الموقوف مما تحتج [ ص: 216 ] به طائفة من أهل العلم، على أن الأثبات وإن كانوا قد رووه موقوفا فإنه في الحقيقة مرفوع؛ فإن هذا مما لا يدخل فيه الرأي، بل هو محمول على السماع. فافهم.

                                                قوله: "وقد روى هذا الحديث أبو الأحوص ... " إلى آخره. إشارة إلى أن رواية أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي مما يرجح الاحتمال الثاني. في قوله: "هي في كل رمضان" وهو أن المعنى: أن ليلة القدر في كل الشهر فحينئذ يدل الحديث قطعا على مدعى هؤلاء القوم.

                                                وإسناده صحيح.

                                                وعدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري .

                                                واعلم أن ها هنا أقوال:

                                                الأول: قول أبي حنيفة ومن معه قد ذكرناه.

                                                الثاني: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متنقلة، تكون في سنة في ليلة، وتكون في سنة أخرى في ليلة، وهكذا. وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي ذلك عن الثوري أيضا.

                                                قالوا: وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: بل تنتقل في رمضان كله.

                                                الثالث: قول طائفة ذهبوا إلى أنها متعينة لا تنتقل أبدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها، وعلى هذا قيل: في السنة كلها. وهو قول ابن مسعود -رضي الله عنه-، وروي عن أبي حنيفة أيضا.

                                                الرابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تكون في شهر رمضان في ليلة واحدة لا تتقدم ولا تتأخر. وهو قول أبي يوسف ومحمد، وسيجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى.

                                                الخامس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأوسط والأواخر، ولكن غير معروفة العين.

                                                [ ص: 217 ] السادس: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في العشر الأواخر ولكن غير معروفة العين.

                                                روي ذلك عن عائشة -رضي الله عنها-، وإليه ذهب عروة .

                                                السابع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأوتار العشر. وروي ذلك عن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-.

                                                الثامن: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تختص بأشفاع العشر.

                                                التاسع: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الثالثة والعشرين أو السابعة والعشرين.

                                                روي ذلك عن ابن عباس .

                                                العاشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها تطلب في ليلة سبعة عشر وإحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين. وحكي ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهم-.

                                                الحادي عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الثالثة والعشرين. وهو قول كثير من الصحابة.

                                                الثاني عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة الرابعة والعشرين. وهو محكي عن بلال وابن عباس والحسن البصري وقتادة -رضي الله عنهم-.

                                                الثالث عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة والعشرين. وهو قول جماعة من الصحابة، وهو المشهور بين الناس.

                                                الرابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة السابعة عشر، وهو يحكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا.

                                                الخامس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في الليلة التاسعة عشر. وحكي ذلك أيضا عن ابن مسعود وعلي -رضي الله عنهما-.

                                                السادس عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها في آخر ليلة من الشهر.

                                                السابع عشر: قول طائفة ذهبوا إلى أنها كانت في زمن النبي -عليه السلام- خاصة، وأنها قد رفعت، لقوله -عليه السلام- حين تلاحى الرجلان: "فرفعت".

                                                [ ص: 218 ] والصحيح بقاؤها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة، واستدلالهم غير صحيح؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه -عليه السلام- قال: "فرفعت فعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في السبع والتسع"؛ وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.




                                                الخدمات العلمية