الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب الوصية بالسكنى والخدمة والثمرة )

قال ( وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنين معلومة وتجوز بذلك أبدا ) لأن المنافع يصح تمليكها في حالة الحياة ببدل وغير بدل ، فكذا بعد الممات لحاجته كما في الأعيان ، ويكون محبوسا على ملكه في حق المنفعة حتى يتملكها الموصى له على ملكه كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف على حكم ملك الواقف ، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في العارية فإنها تمليك على أصلنا ، بخلاف الميراث لأنه خلافه فيما يتملكه المورث وذلك [ ص: 486 ] في عين تبقى والمنفعة عرض لا يبقى ، وكذا الوصية بغلة العبد والدار لأنه بدل المنفعة فأخذ حكمها والمعنى يشملهما .

قال ( فإن خرجت رقبة العبد من الثلث يسلم إليه ليخدمه ) لأن حق الموصى له في الثلث لا يزاحمه الورثة ( وإن كان لا مال له غيره خدم الورثة يومين والموصى له يوما ) لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين كما في الوصية في العين ولا تمكن قسمة العبد أجزاء لأنه لا يتجزأ فصرنا إلى المهايأة إيفاء للحقين ، بخلاف الوصية بسكنى الدار إذا كانت لا تخرج من الثلث حيث تقسم عين الدار ثلاثا للانتفاع لأنه يمكن القسمة بالأجزاء وهو أعدل للتسوية بينهما زمانا وذاتا ، وفي المهايأة تقديم أحدهما زمانا . ولو اقتسموا الدار مهايأة من حيث الزمان تجوز أيضا لأن الحق لهم ، إلا أن الأول وهو الأعدل أولى ، وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار . وعن أبي يوسف رحمه الله أن لهم ذلك لأنه خالص ملكهم . وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى جميع الدار بأن ظهر للميت مال آخر وتخرج الدار من الثلث ، وكذا له حق المزاحمة فيما في أيديهم إذا خرب ما في يده . [ ص: 487 ] والبيع يتضمن إبطال ذلك فمنعوا عنه . قال ( فإن كان مات الموصى له عاد إلى الورثة ) لأن الموصي أوجب الحق للموصى له ليستوفي المنافع على حكم ملكه ، فلو انتقل إلى وارث الموصى له استحقها ابتداء من ملك الموصي من غير مرضاته وذلك لا يجوز

[ ص: 485 ]

التالي السابق


[ ص: 485 ] ( باب الوصية بالمنافع )

لما فرغ من بيان أحكام الوصايا المتعلقة بالأعيان شرع في بيان الوصايا المتعلقة بالمنافع ، وأخر هذا الباب لما أن المنافع بعد الأعيان وجودا فأخرها عنها وضعا ، كذا في الشروح . أقول : فيه شيء ، وهو أن هذا إنما يتم في حق الوصية بالسكنى والوصية بالخدمة دون الوصية بالثمرة ، لأن الثمرة من قبيل الأعيان . والباب يشمل الأقسام الثلاثة كلها عنوانا وأحكاما فلا يتم التقريب ، [ ص: 486 ] وإن صير إلى التوجيه ببناء الكلام على الأكثر يبقى تأخير الوصية بالثمرة خاليا عن بيان النكتة كما لا يخفى .

( قوله إلا أن الأول وهو الأعدل أولى ) قال بعض المتأخرين : فيه أن المفروض كون المهايأة باختيارهم ، فالمتأخر يسقط حقه فلا تبقى الأولوية إلا بإلزام الحاكم حتى يكون أولى انتهى . أقول : ليس هذا بسديد . لأن إسقاط المتأخر حقه لا يلزم أن يكون بطيب خاطره ، بل يجوز أن يكون مع الكراهة لأمر يدعو إليه ، فكيف يساوي هذا استيفاء حقه كاملا كما في الأول . ثم إن سلم كون إسقاط حقه على طيب خاطره ألبتة فهو لا يقتضي إلا انتفاء الظلم له وتحقق العدل في الجملة وذلك لا ينافي كون الأول أعدل منه للتسوية بينهم ذاتا وزمانا ، ولا شك أن الأعدل أولى .

( قوله وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى جميع الدار بأن ظهر للميت مال آخر وتخرج الدار من الثلث ) أقول : فيه بحث . أما أولا فلأنه منقوض بما إذا أوصى لرجل بعين داره ولم يكن له مال غيرها فاقتسمها الموصى له مع الورثة على الثلث والثلثين فإن للورثة هناك أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي تلك الدار بلا خلاف مع جريان هذا الدليل هناك أيضا ; بأن يقال : إن حق الموصى له ثابت في عين جميع الدار بأن ظهر للميت مال آخر وتخرج الدار من الثلث . وأما ثانيا فلأنه إن كان حق الموصى له ثابتا في سكنى جميع الدار بمجرد احتمال ظهور مال آخر للميت وخروج الدار من الثلث فإما أن يكون حق الورثة أيضا ثابتا في سكنى جميع تلك الدار أو لا ، فإن كان الأول يلزم أن يثبت في سكنى جميع الدار [ ص: 487 ] الواحدة في حالة واحدة حقوق أشخاص ، واللازم باطل لاستحالة أن يسكن أشخاص متعددة على حدة في جميع محل واحد في زمان واحد لاستلزامه تداخل الأجسام وظهور بطلان تعلق الحق بأمر محال ، وإن كان الثاني يلزم أن لا يقسم عين الدار بين الموصى له والورثة أثلاثا للانتفاع ، وأن لا يقسم الدار بينهم مهايأة من حيث الزمان أثلاثا لثبوت حق الموصى له في سكنى جميع [ ص: 488 ] الدار وعدم ثبوت حق الورثة في ذلك على الفرض . مع أن المسألة خلاف ذلك كما مر آنفا في الكتاب




الخدمات العلمية