الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 84 ] الصيغة الأولى : " كل " ومدلولها الإحاطة بكل فرد من الجزئيات إن أضيفت إلى النكرة ، أو الأجزاء إن أضيفت إلى معرفة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكلالة لإحاطتها بالوالد والولد ، ومعناها التأكيد لمعنى العموم ، ولهذا قال القاضي عبد الوهاب : ليس بعدها في كلام العرب كلمة أعم منها ، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة ، تقول : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام . وهي تشمل العاقل وغيره ، والمذكر والمؤنث ، والمفرد والمثنى والمجموع ، فلذلك كانت أقوى صيغ العموم ، وتكون في الجميع بلفظ واحد . تقول : كل الناس ، وكل القوم ، وكل رجل ، وكل امرأة . قال سيبويه : معنى قولهم : كل رجل : كل رجال ، فأقاموا رجلا مقام رجال ، لأن رجلا شائع في الجنس . والرجال الجنس ، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه " بكلا ، وكلتا " ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ، فلا يقال : جاء زيد كله ، قال ابن السراج : والضابط أنها إما أن تضاف لفظا ، أو تجرد عن الإضافة ، وإذا أضيفت فإما إلى معرفة أو إلى نكرة ، فهذه أقسام .

                                                      الأول : أن تضاف إلى النكرة ، فيتعين اعتبار المعنى فيما أضيفت إليه ، فيما لها من ضمير وخبر وغيره وإن كان المضاف إليها مفردا فمفردا ومثنى [ ص: 85 ] فمثنى ، وكذلك الجمع والتذكير والتأنيث ، قال تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } { كل نفس ذائقة الموت } { إن كل نفس لما عليها حافظ } . ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع ، فإذا قيل : كل رجل ، فمعناه كل فرد فرد من الرجال ، وقد يكون الاستغراق للجزئيات بمعنى أن الحكم ثابت لكل فرد من جزئيات النكرة ، قد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما ، كقوله : { كل مشرك مقتول } ، { وكل مسكر خمر } ، وقد لا يلزم ، كقولنا : كل رجل يشبعه رغيف . وما ذكرنا من وجوب مراعاة ما أضيفت إليه مشروط بما إذا كان في جملتها ، فإن كان في جملة أخرى جاز عود الضمير على لفظها أو على معناها ، كقوله : { ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } ، فراعى المعنى في الجميع لكونه في جملة أخرى ، وعلى هذا فلا يرد اعتراض الشيخ أبي حيان على القاعدة ببيت عنترة : [ ص: 86 ]

                                                      جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم

                                                      حيث قال : فتركن ، وقياس ما قالوا : تركت ، وجوابه ما سبق ، ولأن الضمير يعود على العيون التي دل عليها كل عين ، ولا يعود على كل عين ليفيد أن ترك كل حديقة كالدرهم ناشئ عن مجموع العيون ، لا عن كل واحدة .

                                                      الثاني : أن يضاف إلى المعرفة ، والأكثر مجيء خبرها مفردا كقوله تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } . وقوله عليه السلام حكاية عن ربه : { يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته } ، وقوله : { كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته } ويجوز الجمع حملا على المعنى . وكلام الأصوليين يقتضي أن الحكم في هذه الحالة كما في التي قبلها من دلالتها على كل فرد ، وأن دلالتها فيه كلية ، واقتضى كلام بعض الأصوليين [ ص: 87 ] وابن مالك أن مدلولها في هذه الحالة المجموع فإنه جوز فيها اعتبار اللفظ والمعنى ; ولهذا جعل صاحب " البديع " من الحنفية " كل الرجال " كلا مجموعيا .

                                                      وقال ابن فورك : القائل : كل حبة من البر غير متقومة ، صحيح ، لأنه كلي عددي ، بخلاف ما إذا قال : كل الحبات منه غير متقوم ، فإنه غير صحيح ; لأن المراد المجموع ، وقد استضعف هذا منه ، فإن " كل " إذا أضيف إلى معرفة جمع كانت ظاهرة في كل فرد كما دل عليه الأمثلة السابقة .

                                                      وقد نقل ابن السراج عن المبرد في قول القائل : أخذت العشرة كلها ، أن إضافة " كل " إلى العشرة كإضافة بعضها إليها ، وأن الكل ليس المعنى الجزئي ، وإنما الكل اسم لأجزائه جميعا المضافة إليه ، واستحسن ابن السراج هذا الكلام من المبرد ، وكأن مراد ابن الساعاتي إذا أريد بها المجموع ، بدليل قوله أولا : قولنا كل شيء ليس معناه كل الشيء فإن الأول كلي عددي ، والثاني كلي مجموعي ، فالخلل إنما جاء من تمثيله بعد ذلك بكل حبة من البر غير متقومة ، وكل الحبات غير متقوم ، وهذا جمع معرف بخلاف كل شيء فإنه مفرد معرف ، والفرق بينهما ظاهر .

                                                      وقال بعض المتأخرين : الظاهر التفصيل بين أن يكون المعرفة مفردا أو جمعا ، فإن كان مفردا كانت لاستغراق أجزائه ، ويلزم منه المجموع ، ولذلك يصدق قولنا : كل رمان مأكول . ولا يصدق : كل الرمان مأكول [ ص: 88 ] لدخول قشره ، وإن كان جمعا احتمل أن يراد المجموع ، كما في قولنا : كلكم يكفيكم درهم ، وأن يراد كل فرد كقوله عليه الصلاة والسلام : { كلكم راع } ، ولذلك فصله بعد ، فقال : { السلطان راع ، والرجل راع ، والمرأة راعية } والاحتمال الثاني أكثر ، فيحمل عليه عند الإمكان ، ولا يعدل إلى الأول إلا بقرينة . وإذا دخلت " كل " على ما فيه الألف واللام وأريد كل فرد ، لأن ذلك جمع أو اسم جمع كالقوم والرهط ، فهل نقول الألف واللام هنا تفيد العموم على بابها ، و " كل " تأكيد لها ، أو أنها لبيان الحقيقة ، حتى تكون " كل " تأسيسا للعموم ؟ فيه نظر . والثاني أقرب من جهة أن " كل " إنما تكون تأكيدا إذا كانت تابعة ، دونها إذا كانت مضافة . وقد يقال : بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه ، و " كل " تفيد العموم في أجزاء " كل " من المراتب . فإذا قلت : كل الرجال ، أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جمع الرجل ، وأفادت " كل " استغراق الآحاد ، فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد . ومن هنا يظهر أنها لا تدخل في المفرد ، والمعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم . وقد نص عليه ابن السراج في الأصول . قلت : ولهذا منع دخول الألف واللام على " كل " ، واعترض قول النحويين : بدل الكل من الكل ، ولك أن تقول : لما لا يجوز الدخول على أن " كل " مؤكدة ، كما هو أحد الاحتمالين عنده في المجموع المعرف .

                                                      قيل : ومن دخولها على المفرد المعرفة قوله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } ، وقوله عليه السلام : [ ص: 89 ] { كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه } والظاهر أن هذا من قسم المعرف المجموع ، لأن المقصود به الجنس ، فهو جمع في المعنى ، ومثله قوله عليه السلام : { كل الناس يغدو فبائع نفسه } . نعم ، إن أريد بالناس واحد صح تمثيله .

                                                      الثالث : أن تقطع عن الإضافة لفظا فيجوز فيها الوجهان : الإفراد والجمع ، قال الله تعالى : { كل له أواب } { كل آمن بالله } { كل له قانتون } . وهذا كله إذا لم يكن في حيز النفي ، فإن كانت في حيزه كان الكلام منفيا ، واختلف حكمها بين أن يتقدم النفي عليها وبين أن تتقدم هي على النفي ، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم ، أفادت التنصيص على انتفاء كل فرد فرد كما تقدم ، وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم يدل إلا على نفي المجموع ، وذلك يصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ، ويسمى الأول عموم السلب ، والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد ، والثاني لم يفد العموم في حق [ ص: 90 ] كل أحد ، بل إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم ، قال القرافي : وهذا شيء اختصت به " كل " من بين سائر صيغ العموم .

                                                      وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان ، وأصلها قوله عليه السلام : { كل ذلك لم يكن } ، لما قال له ذو اليدين ( أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ وقول ذي اليدين له : قد كان بعض ذلك ) ، ووجهه أن السؤال ب " أم " عن أحد الأمرين لطلب التعيين عند ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام ، وإذا كان السؤال عن أحدهما فالجواب إما بتعيين أحدهما أو بنفي كل منهما ، فكان قوله : { كل ذلك لم يكن } ، لنفي كل واحد منهما ، ولكن بالنسبة إلى ظنه صلى الله عليه وسلم ، فلو كان يفيد نفي المجموع ، لا نفي كل واحد منهما ، لكان قوله : { كل ذلك لم يكن } غير مطابق للسؤال ، ولم يكن في قول ذي اليدين قد كان بعض ذلك جواب له ، فإن السلب الكلي يناقضه الإيجاب الجزئي . وقد ذكروا في سبب ذلك طرقا منه : أن النفي مع تأخر " كل " متوجه [ ص: 91 ] إلى الشمول دون أصل الفعل ، بخلاف ما إذا تقدمت فإن النفي حينئذ يتوجه إلى أصل الفعل . قال الجرجاني : من حكم النفي إذا دخل على كلام ، وكان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه ، أن يتوجه النفي إلى ذلك التقييد دون أصل الفعل ، فإذا قيل : لم يأت القوم مجتمعين ، كان النفي متوجها إلى الاجتماع الذي هو قيد في الإتيان دون أصل الإتيان ، ولو قال قائل : لم يأت القوم مجتمعين ، وكان لم يأته أحد منهم ، لقيل له : لم يأتوك أصلا ، فما معنى قولك : مجتمعين ، فهذا مما لا يشك فيه عاقل ، والتأكيد ضرب من التقييد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية