الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعد ما كانوا فيه من الذلة، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة، وختمها بأنه التواب، وكان أبو لهب - من شدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين مع قربه منه - بالمحل الذي لا يجهل، بل شاع واشتهر، وأحرق الأكباد [ ص: 328 ] وصهر، كان بحيث يسأل عن حاله إذ ذاك هل يثبت عليه أو يذل، فشفى غل هذا السؤال، وأزيل بما يكون [له] من النكال، وليكون [ذلك -] بعد وقوع الفتح ونزول الظفر والنصر، والإظهار على الأعداء بالعز والقهر، مذكرا له صلى الله عليه وسلم بما كان أول الأمر من جبروتهم وأذاهم وقوتهم بالعدد والعدد، وأنه لم يغن عنهم شيء من ذلك، بل صدق الله وعده في قوله سبحانه وتعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد وكذبوا فيما كانوا فيه من التعاضد والتناصر والتحالف والتعاقد، فذكر تعالى أعداهم له وأقربهم إليه في النسب إشارة إلى أنه لا فرق في تكذيبه لهم بين القريب والبعيد. وإلى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملا لأهل الدين على الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه، فقال تعالى معبرا بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى بذلك وفرغ منه، فلا بد من كونه ولا محيص : تبت أي حصل القطع الأعظم والحتم الأكمل، فإنها خابت وخسرت غاية الخسارة، وهي المؤدية إلى الهلاك لأنه لا نجاة إلا نجاة الآخرة، وجعل خطاب هذه السورة عن الله ولم يفتتحها بـ "قل" كأخواتها لأن هذا أكثر [ ص: 329 ] أدبا وأدخل في باب العذر وأولى في مراعاة ذوي الرحم، ولذلك لم يكرر ذكرها في القرآن، وأشد في انتصار الله سبحانه وتعالى [له صلى الله عليه وسلم -] وأقرب إلى التخويف وتجويز سرعة الوقوع.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت اليد محل قدرة الإنسان، فإذا اختلت اختل أمره، فكيف إذا حصل الخلل في يديه جميعا، قال مشيرا بالتثنية إلى عموم هلاكه بأن قوته لم تغن عنه شيئا، ولأن التثنية يعبر بها عن النفس، ومشيرا بالكنية وإن كان يؤتى بها غالبا للتشريف إلى مطابقة اسمه لحاله، ومجانسته الموجبة لعظيم نكاله: يدا أبي لهب فلا قدرة له [على -] إعطاء ولا منع، ولا على جلب ولا دفع، وإشارة إلى أن حسن صورته لم تغن عنه شيئا من قبيح سيرته لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "

                                                                                                                                                                                                                                      لأنه [إنما -] كني بهذا لإشراق وجهه وتوقد وجنتيه، ولأنها أشهر، فالبيان بها أقوى وأظهر، والتعبير بها - مع كونه أوضح - أقعد في قول التي [هي -] أحسن. لأن اسمه عبد العزى وهو قبيح موجب للعدول عنه غيرة على العبودية أن تضاف إلى غير مستحقها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 330 ] وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل: قد انقضى عمرك يا محمد ، وانتهى ما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك، وأديت ما تحملته وحان أجلك، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجا، واستجابتهم بعد تلكئهم، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك وإن كان أقرب الناس إليك. فقد فصلت سورة قل يا أيها الكافرون بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك ممن عاداك، ولهذا سماها عليه الصلاة والسلام المبرئة من النفاق، وليعلم كفار قريش وغيرهم أنه لا اعتصام لأحد من النار إلا بالإيمان، وأن القرابات غير نافعة ولا مجدية شيئا إلا مع الإيمان لكم دينكم ولي دين أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وههنا انتهى الكتاب بجملته - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ربما خص التباب بالهلاك، وحمل على هلاك اليدين حقيقة، وكان الإنسان لا يزول جميع منفعته بفوات يديه وإن كان قد يعبر بهما عن النفس، قال مصرحا بالمقصود: وتب أي هو بجملته بتمام الهلاك والخسران، فحقق بهذا ما أريد من الإسناد إلى اليدين [ ص: 331 ] من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، والظاهر أن الأول دعاء والثاني خبر، وعرف بهذا أن الانتماء إلى الصالحين لا يغني إلا إن وقع الاقتداء بهم في أفعالهم لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومادة "تب" و "بت" - الجامعة بجمع التاء والباء للسببين الأدنى الباطني والأعلى الظاهري - تدور على القطع المؤدي في أغلب أحواله إلى الهلاك، لأن من انقطع إلى الأسباب معرضا عن مسببها كان في أعظم تباب، وربما كان القطع باستجماع الأسباب، فحصل العوز بالمقاصد والمحاب، قال ابن مكتوم في الجمع بين المحكم والعباب: التب والتباب: الخسار، وتبا له - على الدعاء، وتبا تبيبا - على المبالغة، قال الإمام أبو عبد الله القزاز : كأنك قلت: خسرانا له، وهو المصدر، نصب نصب سقيا له، قال ابن دريد : وكأن التب المصدر والتباب الاسم، و [التبب و -] [التباب و -] التبيب: الهلاك، والتتبيب النقص والخسار، وكل هذا واضح في القطع عن الخير والفوز، قال: [و] التاب: الكبير من الرجال، والأنثى تابة، وقال القزاز: إذا سألت الرجل عن المرأة قلت: أشابة هي أم تابة، أي أم [هي -] عجوز فانية، [و -] معلوم أن كبر السن مقرب من القطع والهلاك، والتاب: الضعيف، والجمع أتباب - هذلية، وحمار [ ص: 332 ] تاب الظهر - إذا دبر، وجمل [تاب -] كذلك نادرة، ولا شك أن الدبر والضعف هلاك في المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وتب: قطع مثل بت، أي بتقديم الموحدة ووقعوا في تبوب منكرة، وهو بتبة أي بحالة شديدة، والتبي - بالفتح والكسر: ضرب من تمر البحرين، قيل: هو رديء يأكله سقاط الناس، وأتب الله قوته: أضعفها، وتببوهم تتبيبا: أهلكوهم، وتبتب: شاخ، وكل ذلك واضح في القطع بالهلاك والخسار، والتبوب يعني بالضم: [ما -] انطوت عليه الأضلاع كالصدر والقلب، وهذا يحتمل الخير والشر، فإن القلب إذا فسد فسد الجسد كله، وإذا صلح صلح الجسد كله، فيكون حينئذ القطع، بالفوز والنجاة، أو لأن انطواء الأضلاع عليه قطعة عن الخارج، واستتب الأمر: تهيأ واستوى. وقال القزاز: ويقال: هذه العلة لا تستتب في نظائر هذا القول، أي لا تجري في نظائره، كأنه من باب الإزالة إذ إن السين لما جامعت حرف السببين آذنت بالنجاح والفوز [والفلاح -]، فإنها حرف تدل على الاستيفاء في الإنباء عن الشيء والتتمة والألفة، وأحسن من هذا أنها إذا جرت في النظائر أوضحتها وكشفت معانيها ففصلتها وأبانتها وقطعتها عن غير النظائر بما أزالت من الإلباس بها، والذي يحقق معاني التب ويظهر [ ص: 333 ] أنه يؤول إلى القطع مقلوبه، وهو البت - بتقديم الموحدة التي هي السبب الظاهر الذي هو أقوى من حيث إنه لا يتحقق إلا بكمال السبب الباطني، يقال: بت الشيء يبته بتا، وأبته: قطعه قطعا مستأصلا، وبت هو يبت وبيت بتا وانبت، ولعله استوى فيه المجرد والمزيد في التعدية دلالة على أن ما حصل بالمجرد من القطع هو من الكمال بحيث لا مزيد عليه، وكذا استوى القاصر مجردا ومطاوعا مع المتعدي في أصل المعنى. وصدقه بتة: بتلة باينة من صاحبها، وطلقها ثلاثا بتة وإبتاتا، أي قطعا لا عود فيه، ولا أفعله البتة - كأنه قطع فعله، قال سيبويه : وقالوا: قعد البتة - مصدر مؤكد، ولا يستعمل إلا بالألف واللام، وبت عليه القضاء بتا وأبته: قطعه، وسكران ما يبت كلاما وما يبت أي [ما -] يقطعه، قال القزاز : يبت من أبت، ويبت من بت، وسكران بات: منقطع عن العمل بالسكر، وأبت يمينه: أمضاها، أي قطعها عن الحنث، وبتت هي: وجبت وحلت بتا وبتة وبتاتا، وكل ذلك من القطع، وأبت بعيره، أي قطعه بالسير، والمنبت في الحديث: [الذي -] أتعب دابته حتى عطب ظهره فبقي منقطعا به، وقال القزاز: هو الذي أتعب [ ص: 334 ] دابته حتى قطع ظهرها فبقي منبتا به، أي منقطعا به، وبت عليه الشهادة وأبتها: قطع عليه بها وألزمه إياها، وبت عليه [القضاء -] وأبته، قطعه، والبات: المهزول الذي لا يقدر أن يقوم - كأنه قد انقطعت قوته، وفي الحديث " لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل "

                                                                                                                                                                                                                                      فمعناه: يوجبه، أي يقطعه على نفسه قبل الفجر، من أبت عليه الحكم - إذا قطعه، وروي: يبت، من بت - إذا قطع، وكلاهما بمعنى، وهما لغتان فصيحتان. وروي في حديث "من لم يبت " من البيات، وأحمق بات: شديد الحمق - كذا قاله الليث ، وقال الأزهري : هو تاب - بتأخير الموحدة، والبت: كساء غليظ مهلهل مربع أخضر، وقيل: هو من وبر وصوف، والجمع بتوت، والبتات أي بالتخفيف: متاع البيت والزاد، كأن ذلك يقطع صاحبه عن الحاجة، وبتتوه: زودوه، أو أن ذلك من الإزالة لأنه صلة لصاحبه ورفد لأن الاستقراء حاصل بأن كل مادة لها معنى غالب تدور عليه وفيها شيء لإزالة ذلك المعنى، وفلان على بتات أمر - إذا أشرف على فراغه، فإنه ينقطع حينئذ، وتقول: طحنت بالرحى بتا - إذا ابتدأت الإدارة عن يسارك، كأنه دال على القطع بتمام العزيمة لأن ذلك أقوى للطاحن وأمكن، وانبت الرجل: انقطع ماء ظهره، ويقال: [ ص: 335 ] هذا حبل بت - إذا كان طاقا واحدا، كأنه لما كان كذلك فكان سهل القطع أطلق عليه القطع مبالغة مثل عدل، وقد انبت فلان عن فلان - إذا انقطع وانقبض.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية