الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 353 ] فصل

                                                                                      في غنائم بدر والأسرى

                                                                                      قال خالد الطحان ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : من فعل كذا وكذا ، فله من النفل كذا وكذا . قال : فتقدم الفتيان ، ولزم المشيخة الرايات . فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة : كنا ردءا لكم ، لو انهزمتم ، فئتم إلينا ، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى . فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا . فأنزل الله تعالى : ( يسئلونك عن الأنفال ( 1 ) ) إلى قوله : ( وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ( 5 ) ) [ الأنفال ] . يقول : فكان ذلك خيرا لهم . فكذلك أيضا : أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم . أخرجه أبو داود .

                                                                                      ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده . وقال : فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء .

                                                                                      وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر .

                                                                                      وقال عمر بن يونس : حدثني عكرمة بن عمار ، قال : حدثني أبو زميل ، قال : حدثني ابن عباس ، قال : حدثني عمر قال : لما كان يوم بدر ، فذكر القصة .

                                                                                      قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم [ ص: 354 ] فدية فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قلت : لا والله يا رسول الله لا أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم ; فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكني من فلان ; نسيب لعمر ; فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . فلما كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان . قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإلا تباكيت لبكائكما . فقال : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( 67 ) ) إلى قوله : ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ( 69 ) ) [ الأنفال ] ، فأحل الله لهم الغنيمة . أخرجه مسلم .

                                                                                      وقال جرير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه قال : لما كان يوم بدر قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال عبد الله بن رواحة : أنت في واد كثير الحطب فأضرم نارا ثم ألقهم فيها . فقال العباس : قطع الله رحمك . فقال عمر : قادتهم ورؤوسهم قاتلوك وكذبوك ، فاضرب أعناقهم . فقال أبو بكر : عشيرتك وقومك .

                                                                                      ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض حاجته . فقالت طائفة : القول ما قال عمر . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقولون في هؤلاء ؟ إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم ; قال نوح : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( 26 ) ) [ ص: 355 ] [ نوح ] ، وقال موسى : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ( 88 ) ) [ يونس ] ، وقال إبراهيم : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( 36 ) ) [ إبراهيم ] ، وقال عيسى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ( 118 ) ) [ المائدة ] الآية . وأنتم قوم بكم عيلة ، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو بضربة عنق . فقلت : إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يقتل ، قد سمعته يتكلم بالإسلام . فسكت . فما كان يوم أخوف عندي أن يلقي الله علي حجارة من السماء من يومي ذلك ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء .


                                                                                      وقال أبو إسحاق ، عن البراء أو غيره ، قال : جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال العباس : ليس هذا أسرني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد آزرك الله بملك كريم .

                                                                                      وقال ابن إسحاق : حدثني من سمع عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف أسرته ؟ فقال : لقد أغلق عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد ، هيئته كذا وكذا . فقال : لقد أعانك عليه ملك كريم . وقال للعباس : افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث . فأبى وقال : إني كنت مسلما وإنما استكرهوني . قال : الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعي حقا فالله يجزيك بذلك ، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا ، فافد نفسك .

                                                                                      وكان قد أخذ معه عشرون أوقية ذهبا ، فقال : يا رسول الله احسبها لي من فدائي . قال : لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك
                                                                                      .

                                                                                      وقال عبد العزيز بن عمران الزهري ، وهو ضعيف : حدثني محمد بن [ ص: 356 ] موسى ، عن عمارة بن عمار بن أبي اليسر ، عن أبيه ، عن جده قال : نظرت إلى العباس يوم بدر ، وهو قائم كأنه صنم وعيناه تذرفان ، فقلت : جزاك الله من ذي رحم شرا ، تقاتل ابن أخيك مع عدوه ؟ قال : ما فعل ، أقتل ؟ قلت : الله أعز له وأنصر من ذلك . قال : ما تريد إلي ؟ قلت : إسار ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك . قال : ليست بأول صلته . فأسرته .

                                                                                      وروى ابن إسحاق ، عن رجل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : فبعثت قريش في فداء أسراهم . وقال العباس : إني كنت مسلما . فنزل فيه ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم ( 70 ) ) [ الأنفال ] ، قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين أوقية عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به ، مع ما أرجو من المغفرة .

                                                                                      وقال أزهر السمان ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة ، عن علي ، وبعضهم يرسله ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم .

                                                                                      وكان آخر السبعين ثابت بن قيس ، قتل يوم اليمامة .

                                                                                      هذا الحديث داخل في معجزاته ، وإخباره عن حكم الله فيمن يستشهد ، فكان كما قال .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق : حدثني نبيه بن وهب العبدري ، قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فرقهم على المسلمين ، وقال : استوصوا بهم خيرا . قال نبيه : فسمعت من يذكر عن أبي عزيز ، قال : كنت في الأسارى يوم بدر ، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : استوصوا بالأسارى خيرا . فإن كان ليقدم إليهم الطعام فما تقع [ ص: 357 ] بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها إلى أسيره ، ويأكلون التمر . فكنت أستحيي فآخذ الكسرة فأرمي بها إلى الذي رمى بها إلي ، فيرمي بها إلي .

                                                                                      أبو عزيز هو أخو مصعب بن عمير ، يقال : إنه أسلم . وقال ابن الكلبي وغيره : إنه قتل يوم أحد كافرا .

                                                                                      وعن ابن عباس ، قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة .

                                                                                      أخرجه أبو داود من حديث شعبة ، عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء عنه .

                                                                                      وقال أسباط ، عن إسماعيل السدي : كان فداء أهل بدر : العباس ، وعقيل ابن أخيه ، ونوفل ، كل رجل أربعمائة دينار .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : إني قد عرفت أن ناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحدا منهم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها . فقال أبو حذيفة بن عتبة : : أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس ؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف . فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ، فوالله لقد نافق .

                                                                                      فكان أبو حذيفة بعد يقول : والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة . فاستشهد يوم اليمامة
                                                                                      .

                                                                                      [ ص: 358 ] قال ابن إسحاق : إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة .

                                                                                      وكان العباس أكثر الأسرى فداء لكونه موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب .

                                                                                      وقال ابن شهاب : حدثني أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه . فقال : لا والله لا تذرن درهما . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعدما فرغ من بدر ، عليك بالعير ليس دونها شيء . فقال العباس وهو في وثاقه : لا يصلح . قال : ولم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك .

                                                                                      وقد ذكر إرسال زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها رضي الله عنهما .

                                                                                      وقال سعيد بن أبي مريم : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا ابن الهاد ، قال : حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها . فأدركها هبار بن الأسود ، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها ، وألقت ما في بطنها وأهريقت دما . فتحملت . فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية . فقالت بنو أمية : نحن أحق بها . وكانت تحت أبي العاص ، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة ، وكانت تقول لها هند : هذا من سبب أبيك . قالت : فقال رسول [ ص: 359 ] الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : ألا تنطلق فتأتي بزينب ! فقال : بلى يا رسول الله . قال : فخذ خاتمي فأعطها إياه . فانطلق زيد ، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا فقال له : لمن ترعى ؟ قال : لأبي العاص . قال : فلمن هذه الغنم ؟ قال : لزينب بنت محمد . فسار معه شيئا ثم قال له : هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه ، ولا تذكره لأحد ؟ قال : نعم . فأعطاه الخاتم . وانطلق الراعي حتى دخل فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم ، فعرفته ، فقالت : من أعطاك هذا ؟ قال : رجل . قالت : فأين تركته ؟ قال : بمكان كذا وكذا . فسكتت ، حتى إذا كان الليل خرجت إليه ، فقال لها : اركبي بين يدي على بعيره . فقالت : لا ، ولكن اركب أنت بين يدي . وركبت وراءه حتى أتت المدينة .

                                                                                      فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هي أفضل بناتي ، أصيبت في .

                                                                                      قال : فبلغ ذلك علي بن الحسين ، فانطلق إلى عروة فقال : ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تتنقص به فاطمة ؟ فقال عروة : والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أتنقص فاطمة حقا هو لها ، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبدا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية